تَوازُنٌ لِلوَعيِّ مِنْ ثَمَرَاتِ عِبَادَةِ التَّفَكُّرِ – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

تَوازُنٌ لِلوَعيِّ مِنْ ثَمَرَاتِ عِبَادَةِ التَّفَكُّرِ

لَقَد آنَ الأوَانُ مِنْ أجلِ تَصحِيحِ أخطَاءِ العَقلِ البَشريِّ بِتحقِيقِ التَّوَازُنِ الحَقيقيِّ والتَّحقِيقِيِّ في مَساحاتِ الوَعيِ الذاتِيِّ لِلعبدِ، وسوفَ يَتحقَّقُ كُلُّ ذلكَ مِنْ خِلالِ نِظامِ التَّفَكُّرِ في آيَاتِ الحَقِّ الذِي مِن خِلالِهِ يَتَمكَّنُ كُلُّ عَقلٍ أنْ يَخرُجَ مِنْ نِطاقِ حَالةِ الاختِبارِ النِّسبيِّ لِلواقعِ الحَيَاتيِّ الذِي يَعِيشُه لِيبلُغَ حَالةَ كُنْهِ الهُوِيَّةِ ( الاختِبارُ النِّسبِيُّ : هوَ مَا يَختَبِرُه العَقلُ في عَالَمِ الخَلْقِ المُقيَّدِ مِنْ تَجلِّياتِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ على حَياةِ العَبدِ في الدنيَا ) .

وبِبُلوغِ العَقلِ إلى تلكَ الحَالِ، يَمتَلِئُ وَعيُهُ بِالقِيمةِ الكَاملَةِ لِذَاتيَّةِ كُنَهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ؛ إذ أنَّه في عِبادَةِ التَّفَكُّرِ يَخرُجُ عَنْ شَخصيَّةِ العَقلِ المُبَرمَجِ مِنْ خِلالِ الحَياةِ بِمَا يَنفَعُ وبِمَا لا يَنفَعُ، أي بِمَا هوَ وَاهِمٌ وبمَا هوَ حَقِيقيٌّ، فَيَتوَقَّفُ عَنْ كَونِه عَقلاً فردِيَّاً، ويُصبِحُ واحدَاً مَعَ كَنَهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ الأبدِيِّ الأزَلِيِّ .

عندَما يَكتَسِبُ أو يُوْهَبُ العَقلُ نُوراً حَقَّانِيَّاً مِنْ كُنَهِ الهُوِيَّةِ الأبدِيَّةِ المُطلَقِ، فإنَّ قُوَّةَ النُّورِ تَسحبُه إلى الخَارجِ مِنْ جَديدٍ، وعندَما يَعودُ إلى النَّشاطِ النِّسبيِّ لِلواقِعِ الحَياتِيِّ الذِي يَعيشُه، يُدرِكُ العقلُ أنَّ حَقِيقةَ كُنَهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ هيَ بِالتأكِيدِ مُطلَقةٌ غَيرُ مَحدودَةٍ لِعَظيمِ السَّعادَةِ التِي يَجِدُها هذا العَقلُ المُترَوحِنُ، والتِي يُميِّزُها عَنِ المُتعَةِ التِي يُحصِّلُها مِنَ الحَالةِ النِّسبِيَّةِ لِلواقِعِ الحَياتيِّ الذِي يَعيشُه، والتِي سَعادتُه زَائلَةٌ بِالنسبةِ لِلسعَادةِ التِي يَصِلُ إليها في حَالِ التَّفَكُّرِ الرُّوحِيِّ في آيَاتِ كُنَهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ، والذِّكرُ العَقلِيُّ لاسمِها هوَ الحَيُّ لا إلَه إلَّا هوَ .

تُحدِثُ حَالةَ وَعيِّ السَّعَادةِ لِلتَّفَكُّرِ تَأثِيراً حَقِيقيَّاً على طبِيعةِ العَقلِ، وبِذلكَ نَجِدُ العَقلَ أكثرَ قُوَّةً بِمُجرَّدِ أنَّه تَذوَّقَ حَالةً غَيرَ مُقَيِّدَةٍ لِلوَعيِّ الوَاسِعِ غَيرِ المَحدودِ الذِي يُفِيضُه كُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ .

وبِخروجِ العَقلِ مِنْ هذِه الحالةِ ورجُوعهِ إلى الحَالةِ النِّسبيَّةِ لِلواقعِ الحَياتِيِّ الذِي يَعيشُه، التِي فيها الزَّمَنُ والمكانُ والسَّبَبيَّةُ، والتِي تَجعلُ كُلَّ شيءٍ مُقيَّدٍ ضِمنَ مَحدُوديَّاتٍ صَغِيرةٍ، يَحتَفِظُ العقلُ بِمَعلوماتِ الطَّلاقةِ غَيرِ المُقيَّدَةِ في طَبِيعتِه، وهذَا مَا نُعبِّرُ عنه في العِرفَانِ الرُّوحِيِّ بالشَّاهِدِ ( وهوَ أثرُ الشُّهودِ في قَلبِ المُشاهِدِ ) .

ومَعَ تكرَارِ المُمارَسةِ لِلتَّفَكُّرِ الرُّوحِيِّ، يُصبِحُ العقلُ مُتآلفاً مَعَ حَالِ الإطلاقِ الذِي يَتدَرَّبُ عليهِ الوَعيُّ، لِدَرجةِ أنَّه عندَما يَخرُجُ إلى الحَالةِ النِّسبيَّةِ لِلواقعِ الحَياتيِّ الذِي يعِيشُه بِكُلِّ ابتِلاءَاتِه الدنيَويَّةِ، يَكونُ الوعيُّ  بِحالٍ أعلَى نُورَانيَّةً مِنَ الوعيِّ الذِي لا يَختبِرُ إطلاقَ التَّفَكُّرِ الرُّوحِيِّ .. فإنَّ كَمَّ الإطلَاقاتِ التَّفَكُّرِيَّةِ لِلوعي التِي يُمارِسُها العقلُ تَحصُدُ آثاراً أكثرَ وأعمَقَ تَجرِبةً، فَيبَدَأُ التَّوازُنُ المعرِفيُّ في الوَعيِّ بَينَ كَمِّ التجَارِبِ الدنيَويَّةِ في قيُودِ الاختِبارِ النِّسبيِّ وبينَ كَمِّ التَّجارِبِ التَّفَكُّرِيَّةِ لِلرُّوحِ في إطلَاقاتِ الاختِبارِ المُطلَقِ ( الاختِبارُ المُطلَقُ : هوَ مَا يَختبِرُه العقلُ في إطلاقِه عَنِ المُقيَّداتِ أثناءَ التَّفَكُّرِ الرُّوحِيِّ مِنْ تَجلِّياتِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ على رُوحِ العبدِ المُتجرِّدِ عَنْ دُنيَاه ) ولا شَكَّ أنَّ العقلَ الوّاعيَ بِروحِهِ المُتَفَكِّرّةِ سَيكونُ أكثرَ قُدرَةً على تَناوُلِ الحياةِ، وهوَ مُتوَازِنٌ بَينَ مَعلوماتِ القَيدِ وحَقائِقِ الإطلَاقِ، مِمَّا يُعطِيهِ التَّفوُّقَ الذاتِيَّ على كُلِّ مَا هوَ مُقيَّدٌ، فإنَّ لِلشَّاهدِ الذِي يَنتُجُ عَنْ مُمارَسةِ التَّفَكُّرِ الرُّوحِيِّ تَأثِيراً كَبيراً – جاءَ مِنْ حَقيقةِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ – على طَبيعةِ العقلِ وآليَّةِ الوَعيِ مِمَّا يُؤدِّي بِالعقلِ إلى أنْ يَعيشَ نُورَانيَّاتِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ، وفي الوقتِ ذاتِه يَستمِرُّ بِالتَّصرُّفِ والاختِبارِ في دُنيَا الوجُودِ النِّسبيِّ .

وهذِه قِيمَةٌ هَائلةٌ لِلعقلِ لا تَتحقَّقُ إلَّا مِنْ خلالِ فُيُوضاتِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ على الحَياةِ العمليَّةِ اليَوميَّةِ في العَالَم مِنْ خلالِ شَواهِدِ الوَعيِ ( شَواهِدُ جَمعُ شَاهدٍ : هوَ أثرُ الشُّهودِ في قَلبِ المُشَاهِدِ ) .

 


( من كتاب الهوية للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .


 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى