حرف الميم

مَهارَةُ التَّفَكُّرِ الرُّوحِيِّ في الكَيَانِ التَّفَكـُّرِيِّ

موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

مَهارَةُ التَّفَكُّرِ الرُّوحِيِّ في الكَيَانِ التَّفَكـُّرِيِّ

الأنا العَقليةُ ومَظهرُها الدمَاغُ تَسلُكُ طرِيقَها في التَّوهجِ الحَياتيِّ فَتُمارِسُ مَا تَعلَّمَته مِنْ مَصدَرِها، فهيَ تتَوَهجُ في ذَاتِ أنَائِيَّتِها لِتُحاكِي حَقِيقةَ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ، وتُصدِرُعنها نَشاطَاً يَتمَثَّلُ بِكُلِّ أفعَالِها لِتحاكِيَ تَوَهجَ الوصفِ الحَياتيِّ لِكُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ .

فَمَهارَةُ التَّفَكُّرِ الرُّوحيِّ في الكَيَانِ التَّفَكُّرِيِّ الذِي يَتَّخِذُ مِنَ الوعيِ الذاتيِّ مَاهِيَّةً لِحَقيقَتِه هيَ التِي تُوصِلُ الوعيَ المُتعَقِّلَ لِلمُقيَّدَاتِ إلى إدرَاكِ قِيمَةِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ، وإدرَاكِ قِيمةِ التَّوهجِ الحيَاتيِّ عَنْ هذَا الكُنْهِ ، هذِه المَهارةُ ليسَت صَعبَةً على الفَهمِ بَل هيَ سَهلَةُ الإدرَاكِ سَهلَةُ المُمَارسَةِ .

هذِه المَهارةُ تُمارَسُ كمَا يَلِي : حَيثُ يَترَاجعُ نَشاطُ العقلِ عَمَّ تَعقَّلَ في كُلِ المُقَيَّدَاتِ حتَّى يَفرُغَ منها تَمَاماً، ثُمَّ يقومُ الوَعيُ بِاستِحضَارِ مَعلومَةٍ ثابِتةٍ مِنْ تِلكَ المَعلومَاتِ التِي صَدَرَت عَنِ التَّوَهجِ الحَياتيِّ لِكُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ، ويَبدَأُ في التَّوهجِ الأنائيِّ فيها حتَّى يَسبِرَ كُلَّ إدرَاكَاتِها الحيَاتيَّةِ، فإنْ فَعَلَ وَصَلَ إلى ثَمرَةِ الكَيانِ التَّفَكُّرِيِّ؛ وهوَ مَعرِفةُ التَّجلِّي الخَاصِّ بِهذِه المَعلومَةِ الثابِتَةِ، والصَّادِرِ عَنِ التَّوهجِ الحَياتيِّ لِكُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ .

وبِذلكَ يَحصُدُ مَعرِفةً هيَ مُطلقةٌ في أزَلِيَّتِها عَنِ القَيدِ ولَكِنَّها لا تكونُ إلَّا في التَّفَكُّرِ في تِلكَ المَعلومةِ المُقيَّدَةِ بِوَعيِهِ .. فإذا بِنَا نَجِدُ المَشهُودَ بَقيَ في إطلاقِهِ، والشَّاهِدَ بَقِيَ في الوَعيِ يُعلِنُ عَنْ حَقِيقةِ إطلاقِ المَشهُودِ .

ولاشَكَّ أنَّ حَشرَ هذِه الشَّوَاهدِ في الوَعيِ يَصنَعُ في هُوِيَّةِ الوَعيِّ فُؤاداً يَتوَاصَلُ ويَعِي وجُوهَ التَّجلِّياتِ المُطلَقةِ لِكُلِّ مُقيَّدٍ، وبذلكَ يُحاكِي بِإنمُوذجِيَّتِه المُتمَثلَةِ في إدرَاكِ المُقيَّدِ ومُطلَقاتِ التَّجلِّياتِ وَراءَ المُقيَّدّاتِ، يُحَاكِي إطلاقَ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ فلِذلكَ تَرَاه يُدرِكُ الإطلاقَ لِهذَا الكُنْهِ المُطلَقِ، ولا يُحيطُ به عِلمَاً .. فإنَّ الوعيَ لا يُحيطُ إلَّا بِمَا أفادَته المُقيَّدَاتُ مِنْ وَجهِها الخَاصِّ نحوَ الإطلَاقِ لأنَّ المُطلَقَ مِنْ وَرَائِها مُحِيطٌ .

إذاً التَّفَكُّرُ في كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ لن يُجدِيَ نَفعاً لأنَّ الكُنْهَ مُطلَقٌ عَنْ قَيدِ العَقلِ والتَّعَقُّلِ، بَينَما التَّفَكُّرُ يُجدِي نَفعاً في التَّوَهجِ الحَياتيِّ لِكُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ، فإنَّه عَنه تكونُ آيَاتُ الكُنْهِ، وفيه تَكونُ ظُهورَاتُها المُقيَّدَةُ بِمَعلُوماتِها الثابِتَةِ في ذَاتِ الكُنْهِ . 

هذِه هيَ المَهارةُ التِي تَترُكُ العقلَ مُتحرِّرَاً مِنَ القُيودِ في الاختِبارِ النِّسبيِّ، مِمَّا يَجعَلُ العقلَ ثابِتاً في وعيِّ السَّعادةِ الذي أنتَجَتْه الشَّوَاهدُ .

وَلَعلِّي أًشبِّه ذلكَ بِنورِ الشَّمسِ السَّاطعِ، حَيثُ تَفقِدُ نُورَ الشَّمعَةِ وأهمِيَّتَها في عَينِ نُورِ الشَّمسِ، كَذلكَ في النُّورِ الأبدِيِّ لِلسعَادةِ المُطلَقةِ، حَيثُ يُفقَدُ الفَرَحُ النِّسبِيُّ لِلحياةِ وتَضمَحِلُّ جَاذبيَّتُه أمامَ عَظِيمِ عِرفَانِ الكَيانِ التَّفَكُّرِيِّ .

فَبِالرَّغمِ مِنْ أنَّ إدرَاكَ المُطلَقِ في الوَعيِ المُقيَّدِ، وأنَّه لَمْ يُحِطْ بِإطلاقِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ، يُمكنُ لِلإنسانِ أنْ يَعيشَ في التَّوَهجِ الحَياتيِّ، وفي الوَقتِ ذَاتِه يَعيشُ حَياةً مِنَ الحُريَّةِ الأبدِيَّةِ في وَعيِّ السَّعادَةِ الناتجِ عَنْ  إدرَاكِهِ المُقيَّدِ لِطلاقَةِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ .

مِنَ المُمكِنِ لِلإنسانِ أنْ يَعملَ بِكُلِّ حَماسٍ في العَالَمِ، وفي نَفْسِ الوقتِ أنْ يَعيشَ بِوعيِ اللهِ، وبالتالِي يَجمَعُ قِيمَتَي الوجُودِ؛ المُطلقِ والنِّسبِيِّ. وَمِنْ أجلِ كَشْفِ ذلكَ لِلإنسانِ وُجِدَ عِلْمُ الهُوِيَّةِ .

عَلينا أنْ يَرسَخَ في أذهاننا بِأنَّ عِلْمَ الهُوِيَّةِ هذَا، وكونِه عِلْمَاً كَاملاً، لَه أيضاً عِلْمٌ تَطبِيقيٌّ تَظهَرُ نَتائِجُه فَقط عِندَ اختِبارِه .

إنَّ البَابَ مَفتُوحً لِكُلِّ فَردٍ كَي يَختَبِرَ هذِه الحَالةَ مِنْ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ، فيجعلَ في حَياتِه حَالةً مِنَ الحريَّةِ الأبدِيَّةِ وفي الوقت ذاته يَجلِبُ النَّجاحَ الكَبِيرَ لِكُلِّ تَوَهجَاتِ حَياتِه .

 


( من كتاب الهوية للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .


 

زر الذهاب إلى الأعلى