كُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ فَلَكُ الحَيَاةِ الأبَدِيَّةِ – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

كُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ فَلَكُ الحَيَاةِ الأبَدِيَّةِ

الكَلامُ هنَا عَنْ حَقِيقةِ قَيُّومِيَّتِهِ لِسَرَيَانِ الحَياةِ في المُقيَّدَاتِ دُونَ أنْ تَخرُجَ الهُوِيَّةُ عَنِ الإطلَاقِ فَيَبقَى بِاسمِهِ البَاقِي هوَ الحَيُّ القُدُّوسُ .

بِمَا أنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ جَامعةُ الوجُودِ، وهيَ الوجُودُ الأسَاسِيُّ لِلخَليقةِ، فإنَّ لِكُنْهِ الهُوِيَّةِ الوجُودَ  في أسَاسِ كُلِّ شَيءٍ، وَرَاءَ كُلِّ الوجُودِ المَاديِّ، خَلفَ كُلِّ الأشكَالِ والظَّواهِرِ .

وبِسبَبِ حَقِيقتِها النَّقِيَّةِ ( المُقَدَّسةِ ) والمُفعَمَةِ بِالحيَاةِ، فهيَ خَارِجَ نِطاقِ الزَّمانِ والمَكانِ والسَّبَبيَّةِ، وهيَ أيضَاً خَارِجُ مَحدُودَاتِ حَقلِ الظَّواهِرِ الدَّائِمِ التَّغييرِ لِلخَليقةِ، رَغمَ أنَّ كُلَّ مَحدُودَاتِ حَقلِ الظَّوَاهِرِ الدَّائِمِ التَّغييرِ لِلخَليقَةِ هيَ مَظَاهِرُها .

لَقَد كانَت وهيَ في الحَاضِرِ، وسَوفَ تكونُ في حَالتِها مِنَ النَّقَاءِ القُدسِيِّ المُطلَقِ .

إنَّها دَومَاً الحَقِيقةُ التِي لا تَعرِفُ الفَنَاءَ، مَقَامُ الحَياةِ الأبَدِيَّةِ .

يُمكِنُنا فَهمَ الكُنْهِ المُطلَقِ وَرُبُوبِيَّتِه مَعَ الكونِ النِّسبيِّ، وكَأنَّك تُشاهِدُ بَحراً لا مَحدُوداً لِلحياةِ، إنَّه هَادِئٌ ودَائِمُ الوجودِ، في الوَقتِ ذَاتِهِ يُمكِنُنا تَشبِيه النَّواحِي المُختلفةِ لِلخَلِيقةِ بِأنَّها المُتَموِّجَاتُ والأموَاجُ لِلبَحرِ الفَسيحِ لِكُنْهِ الهُوِيَّةِ الأبَدِيَّةِ .

إنَّ كُلَّ الأشكَالِ والظَّوَاهِرِ وحَالَاتِ الحَياةِ الدَّائِمَةِ التَّغييرِ في العَالَمِ – هيَ مَعلُوماتٌ ثَابتَةٌ في هذِه الهُوِيَّةِ – لَها أُسُسهَا في تِلكَ الحَياةِ الأبَدِيَّةِ كُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ جَامِعةِ الوجُودِ .

يُمكِنُنا أنْ نُقرِّبَ لِلذِّهنِ البحرَ الأبَديَّ لِكُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ على أنَّه بَحرٌ مِنَ الماءِ يوجدُ خَلفَ كُلِّ الوجُودِ النِّسبِيِّ .

إنَّه المَجالُ الوَاسعُ غَيرُ المَحدُودِ لِلوجُودِ الصَّافِي، الوَعيِّ الصَّافِي، الذِي هوَ الحَقِيقةُ الأسَاسِيَّةُ والجَوهَريَّةُ لِلخَلِيقةِ لِلحياةِ ومُحتَوَاهَا .

إنَّه حَقلٌ غَيرُ مَحدُودٍ وغَيرُ مُقيَّدٍ، وحَياةٌ أبَدِيَّةٌ، وإدرَاكٌ صَافٍ فَعَّالٌ، ووُجُودٌ صَافٍ، إنَّه المُطلَقُ .

بِمَا أنَّنَا وَجدَنا أنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ جَامِعةِ الوجُودِ هيَ فَلَكُ الحياةِ الأبَدِيَّةِ، يَكونُ الأمرُ مُشجِّعاً حَقَّاً على المُستوَى العَملِيِّ، وهوَ أنَّ الوُجهةَ الظَّاهِريَّةَ الدَّائِمَةَ التَّغيرِ لِلحَياةِ اليَوميَّةِ في العَالَمِ يُمكِنُ دَعمُها بالقُوَّةِ غَيرِ المَحدُودةِ لِلحَياةِ الأبَدِيَّةِ لِلكُنْهِ .

كُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ حَقِيقةُ جَوهَرِ كُلِّ مَوجُودٍ حَيٍّ .

يَمنحُ الحَيُّ الحَياةَ العَمَلِيَّةَ لِلنَّشَاطاتِ اليَوميَّةِ .

إنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ التِي هيَ الوجُودُ الأسَاسِيُّ لِلخَلِيقةِ، هيَ الأسَاسُ لِكُلِّ نَشاطٍ، وهيَ وُجودٌ في المُطلَقِ .

تُشكِّلُ ذَاتيَّةُ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ المَصدرَ الأسَاسيَّ لِكُلِّ نَشَاطٍ عِندَ الفَردِ، ومِنَ الطَّبيعِيِّ أنْ يَتُمَّ بِهَا ومِنْ خِلَالِها الحِفاظُ على النَّشاطِ  في جَميعِ حُقولِ الحَياةِ اليَوميَّةِ المُتَنوِّعةِ والمُجمَعَةِ . 

نَحنُ نَعلَمُ بِشكلٍ طَبِيعيٍّ أنَّ حَيَاتَنَا تَبدَأُ بِالتَّنَفُّسِ والتَّفكِيرِ .

وتُظهِرُ ذَاتيَّةُ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ غَيرِ الظَّاهِرةِ  نَفسَها في تَجلِّياتِ قُدرةِ الحَياةِ والعَقلِ، الذِي هوَ مُستوَى التَّفكِيرِ والتَّنَفُّسِ .

هَكذَا سَوفَ نَرَى أنَّ كُلَّ نَشاطٍ في حَيَاتِنا هوَ مُرتَكِزٌعلى المُطلَقِ، الذِي هوَ الحَقلُ الأبَدِيُّ لِذاتِيَّةِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ .

إنَّ بِدايةَ النَّشاطِ هيَ مِنْ مُستوَى التَّفكِيرِ، وبِدايةُ التَّفكِيرِ هيَ في مُستوَى كُنْهِ الهُوِيَّةِ .

لِذلكَ نَجِدُ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ فِي أسَاسِ كُلِّ نَشاطٍ وسُلوكٍ وكُلِّ الطُّرُقِ والأشكَالِ المُتنوِّعةِ لِلحَياةِ . 

إنَّ جَميعَ المُيُولِ المُختلِفةِ لِكُلِّ مَا نَرغَبُ ومَا لا نَرغَبُ هيَ مِنْ أنمَاطِ العَقلِ .

عِندَما نَسبِرُ غَورَ أسَاسِ العَقلِ وطَاقةَ الحَياةِ، سَوفَ يُصبِحُ مِنَ السَّهلِ تَثبِيتُ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ على أنَّها أسَاسٌ لِكُلِّ حَيٍّ .

بِمَا أنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ ( حَقِيقةِ أحَدِيَّةِ الحياةِ ) هيَ وُجودٌ مَحضٌ في تَجلِّياتِ الخَلِيقةِ أجمَعِ، وفي تَجلِّياتِ كُلِّ مُيُولِ الإنسَانِ، وفي تَجلِّياتِ جَميعِ تَعقِيدَاتِ السُّلوكِ والمُجتَمَعِ، مِنَ السَّهلِ الاستِنتَاجُ بِأنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ هوَ مَبدَأُ ومُنتَهَى جَوهَرِ كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ .

قَالَ تعَالى : بسم الله الرحمن الرحيم : { … وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} طه .

مِنَ المُمكِنِ تَمجِيدُ جَميعِ مَيَادينِ الحَياةِ والعَيشِ، وذَلكَ بأنْ يَتِمَّ بِشكلٍ وَاعٍ تَفَهُّمُ حَقِيقةِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ في جَميعِ تَجلِّياتِ النَّشاطِ والسُّلوكِ المُختلِفةِ .

مِنَ المَعلومِ أنَّ النَّشاطَ يَعتَمدُ على التَّفكِيرِ .

عَلينَا أنْ نُفكِّرَ قَبلَ القِيَامِ بِأيِّ عَملٍ .

ولَكِنَّ النَّاسَ قَلَّمَا تَنتَبِهُ على مَاذا يَعتَمِدُ التَّفكِيرُ .

إنَّ التَّفكِيرَ هوَ أسَاسُ العَملِ .

ولَكِنْ مَا هوَ إذاً أسَاسُ التَّفكِيرِ ؟

مِنْ أجلِ أنْ نُفكِّرَ عَلينَا علَى الأقَلِّ أنْ نَكُونَ مَوجُودِينَ .

فِكرَةُ وُجودِنَا هيَ الضَّرورِيَّةُ هُنَا، ولا وُجودَ بِلَا حَياةٍ حَقِيقيةٍ .

كَينُونَتُنَا بِأنَّنَا أَحيَاءٌ هيَ أسَاسُ التَّفكِيرِ، والتَّفكِيرُ هوَ أسَاسُ العَملِ .

إنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ هوَ حَقِيقةُ كُلِّ عُنصُرٍ حَيٍّ، تَمَاماً كَمَا أنَّه بِلَا الشَّمسِ لَنْ يكونَ هُناكَ شُعاعٌ .

إذَا استَطعنَا الاعتِنَاءَ بِالنُّسُغِ نَكونُ قد اعتَنَينَا بِكُلِّ الشَّجَرَةِ .

وعلى هذَا النَّحوِ، إذا استَطَعنَا الاعتِنَاءَ بِحَقِيقَتِنَا نَكونُ قد اعتَنَينَا بِمُجمَلِ حَقلِ التَّفكِيرِ والعَملِ .

يُمكِنُنَا تَمجِيدُ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ عِندَما نَقومُ وبِشكلٍ واعٍ بِالاعتِنَاءِ بِفَلَكَ الحياةِ بِمُجمَلِهِ .

إنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ هوَ الأسَاسُ الأكثَرُ تَمجِيداً، والأكثَرُ قِيمَةً، والأكثَرُ جَدَارةً بِالثَّنَاءِ لِكُلِّ العَناصِرِ الحَيَّةِ .

إنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ هوَ مُستَنَدُ القَانونِ الكَينُونِيِّ، الذِي هوَ الأسَاسُ لِجميعِ قَوَانِينِ الوجُودِ في كُلِّ الخَلِيقةِ وكُلِّ التَّطوُّرِ .

 


( من كتاب الهوية للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى