حرف العين

عدد أخلاق الله تعالى في عالم الشهادة

موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

إن لله مائة وسبعة عشر خلقا

قَوْلُ الحَكِيمِ التِرمذيِّ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ

( إنَّ للهِ مأية [1] و سبعةَ عشَرَ خُلُقَاً ) ما تِلْكَ الأخْلَاقُ ؟

السؤال الثامن و الأربعون : و قَوْله عليه السّلام (( إنّ لله مائة و سبعة عشر خُلُقاً )) ، ما تلك الأخلاقُ ؟

الجواب : (( لا يُمْكِن تعيينها لنا، و لا لأحدٍ أصلاً )) [2] .

قال المَلِك العَبْد : ما قال الشَارِح المُفْصِح عن هذا الجواب المُوضِّح ؟

قال : نظن إمكان التعيين للخُلُق المعيّنين ، هذا في حَضْرة عِلْم الإمكان ، و أكّد هذا النفي بـ ” و لا لأحدٍ أصلاً “ أيْ أنّ حَصْر هذه الأخلاق كمعرفةٍ محقّقةٍ مُطْاَقَةٍ شاملةٍ لا تصحّ للمُمْكِن لأنّه مُحَاط ، و لا مُحيطَ غيره ، فهو المُحيط سبحانه .

قال العَقْلِيّ : هذه مسألة لمْ تُعقَل معي ! لا يمكن التعيين وعدّها فبلغتْ سبعة عشَر بعد المائة ! كيف ؟!

قال الشَارِح : حَضْرة جواب الحَكِيم مَحصُورةٌ في حَضْرة عِلْم الإمكان ، و العدد معلومٌ مِنْ حَضْرة عِلْم الآن الذي لا يقبل إلا الوجود لذاته ، فتنبّه !

قال العَقْلِيّ : هذا أغرب و أعجب !

قال الشَارِح : عند الفِكْريّ تجد ما ترغب .

قال الفِكْريّ : المُمْكِن إذا انتقل إلى وجودٍ حَقٍّ انتفى عنه الإمكان لانحصاره و تقيده بالآن ، فانتقل حُكْمه العَقْلِيّ في التصورات إلى حكم الوُجُوب ، ففي وُجُود الشيء دون غيره مِنَ المُمْكَنَات ، و على ما هو عليه في وُجُوده دون غيره مِنَ المُمْكَنَات ، ينتفي بوجوده على ما هو عليه كلّ مُمْكِن غيره ، فصار وُجُوده على ما هو عليه واجبٌ ، فهو في حَضْرة التّصديق صار وَاجِبَاً . و هذا منتهى فِكْري .

قال العَقْلِيّ : و ما هو هذا الوَاجِب ؟ هل هو وَاجِبٌ لغيره أمْ وَاجِبٌ لذَاتِه ؟

قال القُدْسيّ : أنا أجيب فالجواب مِنْ عوالِمي ، نعلم أولاً أنّ المُمْكِن و الوَاجِب لغيرِه ثم الوَاجِب لذَاتِه حَضْرة تصوّرٍ عَقْلِيٍّ ، فإذا تحدد المُمْكِن بالآن على ما أوجده الله تعالى و اختاره ليكون وُجُوده عزيزاً دون غيره مِنْ وجوه إمكانه ، فقد صار كلّ مُمْكِن غيره معدومٌ مطرودٌ مِنْ حَضْرة الإمكان ، بلْ صارت الصورة على وجهين :

الأوّل : أن المُنْتَخَبُ ليكون موجوداً دون غيره مِنَ المُمْكَنَات يصبح في التّصديق بوجوده المُختَار وَاجِباً ، أيْ وُجُوب الوُجُود .

و الثاني : أنّ المُهْمَلُ مِنَ المُمْكَنَات الأخرى و التي اختار الله تعالى أنْ لا تكون ؛ تسقط مِنْ حَضْرة الإمكان إلى حَضْرة الوُجُوب ، أيْ وجوب عَدَمِها .

فلم يبقَ معنا إلا الوَاجِب ، و هو إمّا وَاجِبٌ لِذَاتِه ، و إمّا الوَاجِب لغيره ، و لمّا كان سابقاً في حَضْرة إمكانٍ عَلِمنا أنّه لا يمكن أنْ يكون وَاجِباً لِذَاتِه ، فبقي له أنْ يكون وَاجِباً لغيره لافتقاره إلى مَنْ نقله مِنْ إمكانٍ إلى وُجُوبٍ ، فالوَاجِب لِذَاتِه غنيٌ بذَاتِه ، و هذا المَوجُود بعد إمكانٍ في حيّز الوُجُوب غِنَاه لغيره .

فإذا تفطّنت إلى سرّ المَعْرِفَة بالقيّوميّة ، و عرفت  أنّ اللفظ على وزن فَاعِل حقيقةً في الآن و تذَوّقْتَ قَوْله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [3] ، وأنّ لفظة هَالِك على وزن فَاعِل، فهمتَ أنّ الوُجُود عزيزٌ ، و هذا الوُجُود وَاجِبٌ لِذَاتِه ، و تحت هذا عِلْمٌ عَزِيزٌ ما أذِنَ لي بتدوينه و إنْ كان له شواهده القُرْآنيّة ، و قد أيّده الكَشْف ، و لكن يكفي الإشارة إليه لكلّ لَبِيب أيّده الله بنورٍ في قلبه ، و مفتاحه في القُرْآن عِلْم ” اللو “ ، لمِنْ عَرَف مِنْ رَبّه عِلْم المفاتيح القُرْآنيّة .

قال المَلِك العَبْد : الحَمْدُ لله رَبّ العَالَمِين ، و لننتقل إلى الأكْبَريّ قدّس الله تعالى سرّه في بَسْط ذَوْقه .

– قَوْلُ الشيخِ الأكبَريّ قدّس اللهُ تعالى سِرّهُ :

قال الأكْبَريّ في شاكلة الخَاء لمِنْ لاقْ في خانة الأخلاق ، و عن سؤال الحَكيم إنّ لله مائةً و سبعةَ عشَرَ خُلُقاً ، ما تلك الأخلاق ؟

الجواب : (( إنّ هذه الأخلاق مَخصُوصَة بالأنْبِيَاء عليهم السلام ليس لمَنْ دونهم فيها ذَوْقٌ ، و لكنْ لمَنْ دونهم تعريفاتٌ ، فتكون عن تلك التّعريفات أذْوَاقٌ و مشاربَ لا يحصيها إلا الله علماً و عدداً ، فمن هذه الأخلاق خُلُق الجَمْع الدّال على التّفريق ، و الجَمْع الذي يتضمن التّفريق ، و الفَرْق الذي يتضمن الجَمْع و يظهر هذا الخُلُق مِنْ حَضْرة العِزّة و الإنَابَة و الحِكْمَة و الكَرَم ، و مِنْ هذه الأخلاق خُلُق النّور المَستُور و هو مِنْ أعزّ المِعَارِف ، إذْ لا يتمكّن في النّور أنْ يكون مَستُوراً ،  فإنّه لذاته يَخْرُقُ الحُجُب و يهتِك الأسْتَار ، فمَا هذا السَتْر الذي يَحْجُبه !؟ إلا أنّ ذلك الحِجَاب هو أنْتَ ، و مِنْ هذه الأخلاق خُلُق اليَد و هو القُوّة ، و هو مَخصُوصٌ بالقلوب و أصحابها ، و هو على مَراتِب ، و مِنْ هذه الأخلاق خُلُق إعدام الأسباب في عَيْن وجودها و هو على مراتب ، وقفتُ مِنْها في الأندلس على مائة مرتبةٍ ، لا توجد في الكمال إلا في رُوحَانيّة ذلك الإقليم ، فإنّه لكلّ جزءٍ مِنَ الأرض رُوحَانيّة عُلْوِيّة تنظر إليه ، و لتلك الرُوحَانيّة حقيقة إلهيّة تَمُدّها ، و تلك الحقيقة هي المُسمَّاة خُلُقاً إلهيّاً ، و أمّا بقية الأخلاق فلها مراتب دون هذه التي ذكرناها في الإحَاطة و العُمُوم )) .

و لكلّ خُلُقٍ مِنْ هذه الأخلاق درجةً في الجنّة لا يَنالُها إلا مَنْ له هذا الخُلُق ، و هذه الأربعة التي ذكرناها مِنْها للرُسُل و مِنْها للأنْبِيَاء و مِنْها للأوْلِياء و مِنْها للمُؤمنين ، و كلّ طبقةٍ مِنْ هؤلاء الأربع على مَنازِل بعددهم ، فمِنْها ما يشاركهم فيها المَلأ الأَعْلَى ، و مِنْها ما تختصّ به تلك الطَبَقَة ، و ذلك أنّ كلّ أمر يَطْلُبُ الحَقّ ، ففيه يقع الاشتراك ، و كلّ أمرٍ يَطْلُبُ الخُلُق فهو يختص بذلك النوع مِنَ الخُلُق يقتصر عليه ، و مِنَ الباقي أربعة عشر خُلُقاً لا يَعْلَمها إلا الله تعالى ، و الباقي مِنَ الأخلاق تعيّنها أسماء الإحْصَاء ، و هي أسماءٌ لا يَعرِفها إلا وَليٌّ أو مَنْ سَمِعَها مِنْ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مِنَ الصحابة ، و أمّا مِنْ طريق النَقْل فلا يَحصُل بها عِلْمٌ ، و أمّا الثلاثة عشر فيختصّ بعِلْمِها سبحانه و ما بقي فيعلمه أهل الجنّة و هم في العِلْم بها على طبقاتٍ ، و أعني بأهل الجنّة الذين هم أهلها فإنّه لله سبحانه أهلٌ هم أهله و خاصته ، كما وَرَدَ في الخَبَر : ( إنّ أهل القُرْآن هم أهل الله و خاصته ) [4] .

و للجنّة أهلٌ هم أهلها لا يَصلُحُون إلا لها ، و لا يَصلُحُون لله ، و إنْ جمعتهم حَضْرة الزّيارة و لكن هم فيها بالعَرَض ، و للنّار أهلٌ هم أهلها لا يصلحون لله و لا للجنّة ، و لكلّ أهلٍ فيما هم فيه نعيمٌ بمَا هم فيه ، و لكن بعد نفوذ أمر سُلْطَان الحَكَم العَدْل القَاضِي إلى أجلٍ مُسمَّى ، و كلّ طائفةٍ لها شُربٌ و ذَوْقٌ في هذه الأخلاق المَذكٌورة في هذا الباب ، فانقسمت هذه الأخلاق على هؤلاء الطبقات الثلاث ، كلّ خُلُق مِنْها يدعوهم إلى ما يقتضيه أمره و شأنه مِنْ نارٍ أو جنانٍ أو حضورٍ عنده حيث لا أينَ و لا كيف ، و للمعاني المُجرّدة مِنْها أخلاقٌ ، و لعالَم الحِسّ مِنْها أخلاقٌ ، و لعالَم الخيال مِنْها أخلاقٌ ، فجنّةٌ مَحسوسةٌ لمعنىً دون حِسٍّ ، و جنّة معنويّة لحِسٍّ دون معنى ، و حضورٌ مع الحَقّ معنويٌّ لِحِسٍّ دون معنىً ، و حضورٌ مع الحَقّ مَحسوسٌ لمعنىً ، و نار مَحسوسةٌ لمعنىً دون حِسٍّ ، و نار معنويّةٌ لِحِسٍّ دون معنىً ، و تتفاضل مشارب هؤلاء الطبقات فيها ، فمِنْهم التّام و الأتمّ و الكَامِل و الأَكْمَل : { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [5] في كل حَضْرة ، فإنّه كلّما أثبتناه مِنْ أعيانِ أكوانٍ في نارٍ و جنانٍ فليس إلا الحَقّ ، إذْ هي مظاهره ، فالنعيم به لا يصحّ أصلاً في غير مَظهَر فإنّه فناءٌ ليس فيه لِذَةٌ ، فإذا تجلّى في المَظاهِر وَقعَتْ اللذات و الآلام و سَرَتْ في العالَم .. فبه النعيم و به العذاب ، فلا يوجد النعيم أبداً إلا في مَركبٍ و كذلك العذاب ..

قال المَلِك العَبْد : سبحان الخلّاق أتْحَفَنَا مِنْ نَفْحَة الأخلاق بأربعة أخلاقٍ ، خُلُق الجَمْع و الفَرْق ؛ و خُلُق النّور المَستُور في غاية العبور ؛ و خُلُق القبضة بين اليَد و القُوّة و الروضة ؛ و خُلُق الإعدام للأسباب في عين وجودها : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [6] .

فما قَوْل المُجَدّدِيّ في ذَوْقه ؟

– قَوْلُ المُجَدّدِيِّ :

قال المُجَدّدِيّ : تلك أخلاق التَخَلّق .. المجموعة في لفظ التَعَلّق .. لفظ الجلالة الله ففيها أسرار العالَم المَخلٌوق .. مِنْ صُنْع الحَقّ بالحَقّ المَحْقُوق .. ففي لفظة الجلالة عَيْن تِسعيّة المَقَالَة .. فيها مُلْكٌ و ظاهِرٌ و بَاطِنٌ و هذه ثلاثةٌ .. و فيها مَلَكُوتٌ و ظاهِرُ المَلَكُوت و بَاطِنه و هذه ثلاثةٌ ؛ مع سابقتها صارت ستّةً ، و فيها الجَبَرُوت و ظاهِر الجَبَرُوت و بَاطِنه و هذه ثلاثةٌ ؛ مع سابقتها صارت تسعةً ، و هذه التسعة عَيْن جَزْم الأخلاق المسؤول عنها ، فالسبعة عشر جَزْمُها الصغير ثمانيةٌ ؛ و جَزْم المائة الباقية واحد فصار المجموع تسعةً ، فكان سؤال الحَكِيم قدّس الله تعالى سرّه ” إنّ لله – هو عَيْن إجْمَال و تَتِمّة السؤال – مائة و سبعة عشر خُلُقاً “ هو عَيْن تفصيلٍ لما أُجْمِل ، فإذا كان صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الكَشْف الأتمّ و السِرّ الأعظم و قد كان خُلُقَه رَبّانيّاً ؛ خُلُقه القُرْآن ، فقد عَلِمْنَا فِكْراً أنّ هذه الأخلاق المائة و السبعة عشر لا تخرج عن القُرْآن – و الذي هو دستور الكون الأوّل – فتكون مَتلوّةً علينا تِلَاوَة مَقَالٍ ، و لا تخرج عن العالَمُ – الذي هو الحقيقةُ القُرْآنيّةُ – فتكون مَتلوّةً علينا تِلَاوَة حَالٍ ، كما كان صلّى الله عليه وآله وسلّم تِلَاوَة حَالٍ لتِلَاوَة المَقَال ، فهو على ذلك صلّى الله عليه وآله وسلّم تجسّد حَال المَقَال ، و هو الصُورة الجَامِعَة ، و كلّ حَالٍ جُزئيٍّ في هذا الحَال الكُلّي وُجِدَ عن حقيقة مَقَالٍ كُلّي فيه اندرج مَقَالٌ جُزئيٌّ هو عين كُنْ مِنَ الله تعالى ، فَجَمَعَ حقائق الحَال و حقائق المَقاَل في عَيْنه ، و أبرز هذا الجَمْع في جَوامِع كَلِمِه صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال : ” كنت نبيّاً و آدم بين المَاء و الطين ” ، فافتتح هذا الحَقّ المُوحَى إليه بكُنْ مع تائه التي تشير إلى كُلِّيّة عوالِمه ، فالتاء هنا هي هو صلّى الله عليه وآله وسلمّ ، و الـ كُنْ هي كُنْ مِنَ الله تعالى ، فالتصقتْ التاء بكُنْ فصار المجموع ” كُنْتُ ” ، فإذا عَلِمْتَ أنّ الفعل لأحديّة الكلمة عَلِمْتَ أنّه حقيقةٌ مِنْ حقائق هذا الوُجُود المُمَدّ بنور أحديّة المُمِدّ ، و عليه فإنّ تمام كُنْ كلمة الحَضْرة هو تمام المائة و السبعة عشر خُلُقاً ، و قد تكلّم الأكْبَريّ قدّس الله تعالى سرّه عن الأربعة الأوتاد لهذه الأخلاق ، و هأنذا أبسط الجامع لهذه الأربعة ، هذا الخُلُق القُطْب الجَامِع للحَضَرات الأربعة و ما دونها ، فهو سرّ الجَمْع و الفَرْق و النّور المَستُور و اليَد و إعدام الأسباب في عَيْن وُجُودها مِنْ حَضْرة الوِجْدَان مِنْ اسمه الوَاجِد ، حَضْرة كُنْ و في هذا المَبْحَث هي خُلُق كًنْ .    

 


[1] أصل اللفظ مائة و لكنه هكذا كُتب في كتاب ختم الأولياء في السؤال الثامن و الأربعون . 

[2] انظر ختم الأولياء للحكيم التِرمذيّ رضي الله عنه ورقة 246/1 الجواب المستقيم .

[3] بعض من الآية /88/ سورة القصص .

[4] انظر سنن ابن ماجة مقدمة /16/ . مسند الإمام أحمد بن حنبل 3/ 127/128/242/ .

[5] سورة يس الآية الأخيرة .

[6] بعض من الآية /88/ سورة القصص .

 


( من كتاب‏‏ نبوغ المجددية في تطوير الأذواق العرفانية للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب  ) .


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى