لا يستويان – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

( لَا يَسْتِوَيَانِ )

مِنَ العَبْدِ الفَقِيْرِ إلَى رَبِّهِ تَعَالَى هَانِيْبَالْ يُوسُفْ حَرْبْ إلَى (………)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ

وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى  سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ وَبَعْدُ :

 

اعْلَمْ يَا وَلِيِّي فِي اللهِ تَعَالَى أنَّ رَفِيْعَ الدَّرَجَاتِ ذِي العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِن أمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَأنَّنَا لَمَّا سَمِعْنَا هَذَا الخَطَابَ الإلَهِيَّ عَلِمْنَا أنَّ اسْمَاً مِنْ أسْمَائِهِ القُرْءَانِيَّةِ ( رَفِيْعُ  الدَّرَجَاتِ ) ، وَلَمَّا تَنَبَّهْنَا إلَى لَفْظَةِ الدَّرَجَاتِ فِي هَذَا الاسْمِ عَلِمْنَا أنَّ ثَمَّةَ مُسْتَوَيَاتٍ يَتَوَجَّهُ مِنْهَا الإلْقَاءُ الرُّوحِيُّ  ، فَالدَّرَجَةُ الَّتِي فِيْهَا الْعُلَمَاءُ تَخَتَلِفُ عَنْ دَرَجَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الجَاهِلينَ ، وَقَدْ قَالَ حَبِيْبِي عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَائِلٍ : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ {9} الزمر ، – لَا يَسْتَوِيَانْ – .

وَفِي هَذَا إعْلَامٌ لَنَا أنَّ أهْلَ العِلْمِ فِي سَوِيَّةٍ تَخْتَلِفُ عَن مَنْ نَزَلَ عَن مَرْتَبَتِهِمْ ، وَبِالتَّالِي أقْرَرْنَا بِوُجُودِ مَرَاتِبَ وَدَرَجَاتٍ  تَتَفَاضَلُ فِيْمَا بَيْنَهَا ، وَلَا نَشُكُّ أنَّ الْأعْلَى مِنْهَا هُوَ المُسْتَوى الأعْلَى .

وَإنِّي قَدْ وَجَدْتُكَ لَا تُرَاعِي هَذِهِ الْحَقِيْقَةَ رُغْمَ أنَّكَ تُحَاوِلُ أنْ تَتَخَلَّقَ بِهَا وَلَكِنْ قَصُرَ فَهْمُكَ عَن إدْرَاكِ التَّطْبِيْقِ العَمَلِيِّ لِحَقِيْقَةِ « لَا يَسْتَوِيَان » .

لِذَلِكَ أقُولُ لَكَ : لَا يَسْتَوِيَانْ ، أي أنَّهُمَا لَيْسَا بِسَوِيَّةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإنَّكَ إنْ جِئْتَ لِتُطَبِّقَ هَذِهِ الآيَةَ عَمَلِيَّاً فِي الحَيَاةِ اليَوْمِيَّةِ فَإنَّهُ يَتَوَجَّبُ عَلَيْكَ مُلَاحَظَةَ كِلَا الْمُسْتَوَيَيْنِ لَا أنْ تُلَاحِظَ مُسْتَوَىً وَاحِدَاً فَقَطْ .. فَإنَّكَ فِيْ الوَاقَعِ مَهْمَا وَقَفْتَ مَعَ دَرَجَةٍ مِن هَذَيْنِ المُسْتَوَيَيْنِ فَإنَّكَ لَسْتَ مَعَ الدَّرَجَةِ الأخْرَى .

وَهُنَا يَتَوَجَّبُ عَلَيْنَا أنْ نَعْرِفَ جَوَابَ السُّؤَالِ التَّالِي : مَعَ أيِّ مُسْتَوَىً يَجِبُ أنْ نَقِفَ ؟  وَجَوَابُ العَاقِلِ هُوَ : أنْ نَقِفَ مَعَ المُسْتَوَى الأعْلَى فِي الدَّرَجَةِ مَعَ مُلَاحَظَةِ الْمُسْتَوَى الأدْنَى الَّذِي ارْتَقَيْنَا عَنْهُ ، وَاسْتِحْضَارِ أنَّهُ مَتْرُوكٌ لِرِعَايَةِ الأعْلَى مِنْهُ .

هَذَا مِفْتَاحُ حَصَانَتِكَ مِنَ التَّخَبُّطِ فِي حَالِ تَخَلُّقِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ .

وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا التَّخَلُّقِ فِي مَوَاقِفَ حَيَاتِيَّةٍ إنْسَانِيَّةٍ كَثِيْرَةٍ، أذْكُرُ لَكَ مِنْهَا :

أنَّكَ إذَا اتَّبَعْتَ مَنْ هُوَ فِيْ مُسْتَوَىً عِلْمِيٍّ عَالٍ ، فَيُحْظَرُ عَلَيْكَ الاسْتِمَاعُ لِمَا يُنَاقِضُ هَذِهِ  الحَضْرَةَ العِلْمِيَّةَ العَالِيَةَ إذَا صَدَرَ عَمَّنْ هُوَ أدْنَى مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ يُحْظَرُ عَلَيْكَ مَا يُعَاكِسُ وَمَا يُضَادُّ وَمَا يُخَالِفُ .

وَلَقَدْ وَجَدْتُ الكَثِيْرَ مِن طُلَّابِ العِلْمِ الَّذِيْنَ يَتَتَلْمَذُونَ عَلَى يَدِ عَالِمٍ لَهُ وَزْنُهُ الْعَمَلِيُّ وَالثَّقَافِيُّ فِي بِيْئَتِهِ ؛ وَمَعَ ذَلِكَ تَجِدُ أحَدَ طُلَّابِ العِلْمِ عِنْدَهُ يُعْطِي أُذُنَهُ لِمَنْ هُوَ أدْنَى مِن أُسْتَاذِهِ فِي العِلْمِ ؛ وَلَا يَدْرِي هَذَا الطَّالِبُ أنَّهُ بِذَلِكَ خَالَفَ الآيَةَ وَنَزَلَ مِن دَرَجَةٍ أعْلَى إلَى دَرَجَةٍ أدْنَى . وَالْأخْطَرُ مِن ذَلِكَ عِنْدَمَا يَمِيْلُ إلَى مَنْ هُوَ أدْنَى ، فَإذَا بِهِ يُصْبِحُ مُنْتَكِسَاً مُفَارِقَاً لِلأعْلَى المُفَضَّلِ وَالمُرَجَّحِ بِتَرْجِيْحٍ إلَهِيٍّ إلَى مَا هُوَ مُرَجَّحٌ عِنْدَهُ بِهَوَاهُ النَّفْسِيِّ أوْ حَرَكَةِ عَقْلِهِ الَّتِيْ هِيَ فِي الأصْلِ أدْنَى مِنْ حَرَكَةِ عَقْلِ أُسْتَاذِهِ فِي مُسْتَوَاه الأعْلَى .

وَلْتَنْتَبِهْ يَا وَلِيِّي فِي اللهِ تَعَالَى إلَى هَذِهِ الحَقِيْقَةِ ، فَإنَّهَا تِقَنِيَّةٌ مِن تِقَنِيَّاتِ الشَّيْطَانِ فِي تَنْكِيْسِ التَّابِعِ الأدْنَى عَنِ المَتْبُوعِ الأعْلَى ، فَإنَّ فِي ذَلِكَ خَطَرٌ مُرَكَّبٌ ، فَهُوَ :

مِنْ وَجْهٍ أنْزَلَهُ مِنَ المُسْتَوَى الأعْلَى إلَى الدَّرَجَةِ الأنْزَلِ .

وَمنْ وَجْهٍ طَعَنَ ضِمْنَاً فِي المُسْتَوَى الأعْلَى .

وَمنْ وَجْهٍ غَلَّبَ التَّرْجِيْحَ البَشَرِيَّ فِي النَّازِلِ عَلَى التَّرْجِيْح ِالإلَهِيِّ لِلأعْلَى .

وَمنْ وَجْهٍ جَعَلَ تَرْجِيْحَ وَتَفْضِيْلَ العَبْدِ النَّازِلِ فِي مُقًابٍلِ التَّرْجِيْحِ الإلَهِيِّ .

وَمنْ وَجْهٍ أخَلَّ فِي عَالَمِ الحِكْمَةِ وَلَبَّسَ عَلَى العَبْدِ الأنْزَلَ؛ فَصَارَ يَشْهَدُ الدَّرَجَةَ الأنْزَلَ مُسْتَوَىً أعْلَى ، وَيُمْكِنُكَ أنْ تُلَاحِظَ هُنَا خُطُورَةَ قَلْبِ الحَقَائِقِ عَلَى العَبْدِ .

وَمِن وَجْهٍ طَعَنَ فِي  العِلْمِ السَّامِي الَّذِي خَصَّصَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ  بِأنَّهَا أعْلَى .

وَمِن وَجْهٍ خَالَفَ القَوَانِيْنَ الإلَهِيَّةَ وَخَالَفَ فِطْرَةَ التَّرْجِيْحِ .. وَالكَثيْرَ الْكَثِيْرَ مِنَ الوُجُوهِ. وَلَكِنْ لَعَلِّي ألْفِتُ نَظَرَكَ إلَى أخْطَرِهَا وَهُوَ أنَّهُ خَالَفَ النَّصَّ القُرْءَانِيَّ وَهُوَ يَحْسَبُ أنَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَأنَّهُ قَدْ أحْسَنَ صُنْعَاً ، نَعُوذُ بِاللهِ وَإيَّاكَ مِنْ أنْ لَا نَشْهَدَ حَقِيْقَةَ « لَا يَسْتَوِيَان » .

أمَّا مِن نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَإنِّي أشُدُّ عَلَى يَدِكَ بِنُورِ الإيْمَانِ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أنَّكَ إذَا ثَبُتَ عِنْدَكَ مَرْتَبَةٌ عِلْمِيَّةٌ لِشَخْصٍ فِي أيِّ مُسْتَوَىً عِلْمِيٍّ كَانَ ؛ فَلَا تَقْبَلْ أيَّ مَعْلُومَةٍ تُنَاقِضُ أو تُعَاكِسُ أو تُضَادُّ أو تُخَالِفُ حَقِيْقَةَ تِلْكَ المَرْتَبَةِ إذَا كَانَتْ مُسَاوِيَةً لَهَا أو أدْنَى مِنْهَا ، فَإنَّ حَقِيْقَةَ « لَا يَسْتَوِيَان »  تَعْنِي أنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا أنْ نَبْقَى مَعَ الْأعْلَى مُسْتَوَىً لَا مَعَ الْمُسَاوِي لِلْأدْنَى أو مَنْ نَزَلَ عَنْهُ .

وَلْتَنْتَبِهُ – أنَارَ اللهُ فِي قَلْبِكَ أنْوَارَ اليَقَظَةِ – أنَّكَ إنْ تَخَلَّقْتَ بِحَقِيْقَةِ « لَا يَسْتَوِيَان » فِي الآيَةِ  فَإنَّكَ :

1- تَكُونُ قَدْ تَخَلَّقْتَ بِالآيَةِ الكَرِيْمَة ِ .

2- وَ تَكُونُ قَدْ وَافَقْتَ التَّرْجِيْحَ الإلَهِيَّ .

3- وَ تَكُونُ قَدْ أنْزَلْتَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ ؛وَهَذَا مَا نَحْنُ مَأمُورون بِهِ بِنَصِّ القُرْءَانِ الكَرِيْمِ .

4- وَ تَكُونُ قَدْ أقََمْتَ شَعَائِرَ الأدَبِ مَعَ حَقَائِقِ الخِطَابِ القُرْءَانِيِّ .

5- وَ تَكُونُ قَدْ نَزَّهْتَ نَفْسَكَ عَن عَوَالِمِ العَقْلِ السَّلْبِيِّ وَالشَّهْوَةِ وَالظَّنِّ السُّوءِ .

6- وَ تَكُونُ قَدِ ارْتَقْيَتَ عُلُوَّاً وَحَصَّنْتَ نَفسَكَ عَنِ النَّكْثِ وَالتَّسَفُّلِ .

وَالكَثِيْرُ الكَثِيْرُ مِنَ الخَيْرِ ، وَلَعَلِّي أُشِيْرُ إلَيْكَ بِالْمُهِمِّ مِن هَذِهِ التَّحَقُّقَاتِ وَهُوَ أنَّكَ بِذَلِكَ تَكُونُ قَدْ أغْلَقْتَ هَذَا البَابَ عَلَى الشَّيْطَانِ ، فَالَّذِيْنَ يَعْلَمُونَ هُمُ الأعْلَى وَلَا يَسْتَوُونَ مَعَ مَنْ نَزَلَ عَن دَرَجَتِهِمْ ، فَانْظُرْ لِمَنْ تُعْطِي أُذُنَيْكَ وَمِمَّنْ تَسْمَعُ ، وَأيُّ حَضْرَةٍ عِلْمِيَّةٍ تَقُودُكَ ؟ وَإنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِيْنِ ، فَخُذْ عَنِّي النَّصِيْحَةَ التَّالِيَةَ أخْتِمُ بِهَا كِتَابِي هَذَا :

إنَّكَ مَهْمَا أقَمْتَ فِي دَرَجَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَأنْتَ تَعْرِفُ أنَّ غَيْرَهَا أعْلَى مِنْهَا ، فَلَا تَتَوَانَى عَنِ الانْتِقَالِ إلَيْهَا وَتَرْكِ الَّتِي كُنْتَ فِيْهَا مِن لَحْظَةِ إدْرَاكِكَ أنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ ، فَإنَّ التَّكْلِيْفَ

يُلْزِمُكَ لَحْظَةَ إدْرَاكِكَ هَذَا .

وَاحْذَرْ ألَّا يَرَاكَ رَبُّكَ فِي أدْنَى وَأنْتَ تَعْرِفُ أنَّ ثَمَّةَ أعْلَى ، فَإنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ العَلِيْمُ الأعْلَى  رَفِيْعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ؛ فَإنَّ رُؤيَتَهُ لَكَ فِي الأعْلَى لَيْسَتْ كَرُؤيَتِهِ لَكَ فِي الأدْنَى ، وَتَخْتَلِفُ العَطَاءَاتُ وَالأنْوَارُ وَالهِبَاتُ وَالفُتُوحُ .. الخ  .

هَذَا وَارِدُ الوَقْتَ .. وَفي التَّخَلُّقِ بـِ « لَا يَسْتَوِيَانِ » بُحُورٌ يَضِيْقُ عَنْهَا هَذَا الوَرَقُ وَالقَلَمُ وَالمِدَادُ .

وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ

 


( من كتاب‏‏ الكتب الخيرة للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب  ) .


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى