تطبيقات عملية لعلم رؤية القول بالبصر – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

تَطبِيقَاتٌ عَمَليَّةٌ لِعِلْمِ رُؤيَةِ القَولِ بِالبَصَرِ

 

 

وَردَ في الكتابِ المَكنُونِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ {3} الصف .

فَثَرثَرةُ البَشرِ دونَ أفعَالٍ هي لأهلِ الظَّلامِ، أمَّا رِسالةُ الحَقِّ لِلنُّورَانيِّينَ المُؤمنينَ هي أنْ تكونَ أقوَالُهم حَقَائقَ مُتجَسِّدةً وقائعَ، هذَا كَونُك مُؤمنٌ فأنتَ عَبدٌ لِربِّكَ، رَبِّ العَالَمِينَ، والعَبدُ لابدَّ له أنْ يَتخلَّقَ بأخلاقِ سَيِّدِه، فيقولُ تعَالى في كِتابِه المَرقُومِ : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يس82 .

فَبِتخَلّقِكَ بهذَا الخُلُقِ الرَّبَّانيِّ يجبُ أنْ تَؤُولَ كلمَاتُك إلى حَقائقَ مَوجودةٍ مَرئيَّةٍ ومَشهُودةٍ، فأُمَّةُ الإسلامِ حَضارةٌ مُتكلِّمةٌ فَاعلةٌ، كَلمتُها نَافذَةٌ مُتحقِّقةٌ، أقوَالُها تَكوينيَّةٌ إيجَاديَّةٌ، ذلِك لأنَّ مُؤمنِيها مُتخلِّقونَ بِخُلقٍ رَبَّانيِّ؛ أخلاقِ سَيِّدِ المُرسَلينَ طَه الأمِينِ عليه صَلاةُ و سَلامُ اللهِ وعلى آلِه وصحبِه أجمَعينَ .

وبِمَنطقٍ بَسيطٍ لِتلكَ المَلَكَة الرُّوحيَّةِ وتَقعِيدٍ لِذاكَ القَانونِ الكَونيِّ أقولُ بِأنَّ المِرَانَ الرُّوحِيَّ والنَّفسِيَّ على فِعلِ كُلِّ كَلمةٍ تَقولُها هوَ بِدايةٌ مَضمُونةُ النَّتائجِ لِتطوِيرِ ذَاكَ الخُلُقِ الرَّبَّانيِّ؛ بأنْ تفعلَ مَا تقولُ وتُصبحُ الأشياءُ مُنْفَعِلةً في الإيجَادِ لِكلمتِكَ الصَّادقةِ .

ومعَ الوقتِ تَتِمُّ بَرمَجةُ أجهزةِ الجَسدِ البَشريِّ، جِهازِ النُّطقِ، جِهازِ المُخيِّلةِ، جِهازِ الذَّاكِرةِ، الحَواسِ البَاطنةِ، والحَواسِ الظَّاهِرةِ، هذِه كُلُّها تعملُ بِصورةٍ مُتكَاملةٍ لِتُصِيغَ الأمرَ كَكَلمةٍ لِيتحقَّقَ كَفعلٍ، حتَّى يَصِلَ المرءُ لِمقَامِ تَحقِيقِ المُستحيلِ بِكلمتِهِ النَّافِذةِ .

جاءَ في الحديثِ الصحيحِ : أنَّ رجلاً صَريعاً طَرِيحَ الأرضِ مرَّ به رِجالٌ، فقرأَ أحدُهم وهوَ ” ابنُ مَسعودٍ رضيَ اللهُ عنه “ في أُذُنِه كَلماتٍ، فقامَ الرَّجلُ مِنْ مَصرَعِه وكأنَّمَا نَشطَ مِنْ عِقَالٍ، فَحَسِبَ مَنْ كانَ معَه أنَّه تَلَى عليهِ سِحرَاً، فَشَكَوه لِرسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ” بِمَاذا قَرأتَ في أُذُنِه ؟ “، فقالَ : ” يَا رسولَ اللهِ قرأتُ في أذُنِه { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } “، فَتَبسَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلّمَ وقالَ : ” والذِي نَفسِي بِيَده لو أنَّ رَجُلاً مُوقِناً قرأَ بِها على جَبَلٍ لَزَالَ ” .

فَيَزولُ الجبلُ بِفعلِ كَلمةٍ مِنْ نَاطقٍ مُتحقِّقٍ بِنورِ الحَقِّ، فَالملائكةُ تَضعُ أجنِحتَها لِطالبِ العِلمِ قُدرَةً وتَحقِيقاً لإرَادتِه، فَنَجدُه قائلاً فَاعلاً، حتَّى أنَّه إذا قالَ مَا لَمْ يَستطِعْ فِعلَه تُحَقِّقُ المَلائكةُ له ذلِك حَيَاءً مِنه، فليسَ لِلعجزِ سَبيلاً لِقَلبِه المُتنَوِّرِ بِنورِ اللهِ، فهوَ مِنَ الذِين قالَ فيهِمُ الحَقُّ سُبحانَه وتعَالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } الصف2 ، فهوَ مُؤمنٌ حقَّاًّ ومُوقِنٌ حَقّاً، فَعَّالٌ لِمَا يقولُ، مُتحقِّقٌ بقَولِه تعَالى ” كُنْ فيَكونُ ” .

يقولُ تعَالى في كتابِه الحكيمِ : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ {30} نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ {31} فصلت .

يقولونَ بِالقَولِ بِلفظِ الكَلمةِ ” رَبُّنَا اللَّهُ “ ، ويُحقِّقونَ قولَهم فِعلاً تَشهدُه الأكوانُ، والتَزمُوا الهُدى وكَلمةَ الحَقِّ، أولئكَ “تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا” .

أمَّا العَالِي المُستكبِرُ الجَبَّارُ العَنيدُ الذِي ظَنَّ بِأنَّه رَبٌّ والنَّاسُ لديه عَبيدٌ { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } الأحقاف18

فهُمُ المُنفَعَلونَ المُسيَّرون بِكلمةِ أهلِ النُّورِ والمَددِ المَلائكيِّ مِنَ الحَقِّ النُّورِ .

فَمَا السَّبيلُ والوَاسطَةُ التِي تَجعَلُكَ مُحقِّقَاً لِكلمَتِك ؟

ولو شَابَ المَسألةَ عَجزٌ حَقَّقَتها المَلائكةُ لَكَ ؟

وإنْ شَابَ المَلائكةَ عَجزٌ حَقَّقَها اللهُ عَزَّ وجَلَّ لَكَ ؟

و لِنُجِيبَ، نَقُصُّ عليكُم هُنا مِمَّا أوردَه الحَقُّ في قِصَّةِ سَيِّدِنا إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ، فَحينَ جَمعَ قومُ إبراهيمَ عليهِ الجُمُوعَ والتَهَبَ الحَطبُ المُقيَّدُ فيه حتَّى السُّطوعِ، ضَجَّتْ مَلائكةُ السمَاءِ لِعجزِ الخَليلِ، فَأرسلَ اللهُ له مِنَ الملائكةِ المَلكَ جِبريلَ يَسألُ إبراهيمَ الصِدِّيقَ، أيَّ تَسخيرٍ يُخرِجُه مِنْ ضيقٍ، فأجابَه الخليلُ الرَّبَّانيُّ : ” عِلمُه بحَالي يُغْنِي عَنْ سُؤالِي ” ، فابتَغَى الخليلُ وجهَ الحَبيبِ بِالمُباشرَةِ لا بِالرِّسالةِ ولا بِالوَاسطةِ، فأمَرَ اللهُ سبحَانَه النَّارَ بِكلماتِه الحَقَّةِ فقالَ : { .. يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } الأنبياء69 .. فكانَت بَردَاً وسَلاماً حَقَّاً حَقَّاً، فمَا كانَ الأمرُ كَمَا قِيلَ لِمُوسى الكَليمِ : { .. قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } طه36 بِالمُباشرَةِ مِنَ الحَبيبِ إلى الخَليلِ، مِنَ الحَبيبِ إلى الكَليمِ، وإنَّمَا آلَتِ النّارُ بِأمرِ رَبِّ التَّكوِينِ مِنْ وَهجٍ إلى رَمِيمٍ .. وآلَ القولُ إلى حَقيقَةٍ مِنْ رَبٍّ كَريمٍ .

فهَل سَألتَ نَفسكَ يَا وَلِيِّي في اللهِ تعَالى أَكَانت أقوَالُك مُطابِقةً أفعَالَك ؟

وهلِ الأكوَانُ مُنفَعِلةٌ لَكَ ؟

وهل تَأثَّرَ مُحِيطُكَ بِكلمَتِك ؟

أمْ أنَّكَ لا تَتَّبِعُ قوانِينَ الحَقِّ المَسطُورَةِ في كتابِه الحَكيمِ ؟

وأنَّكَ لا تَستَقِيمُ على مَا جاءَك في الكِتابِ المُستبِينِ ؟

وأنَّكَ قَارِئٌ حَافِظٌ غيرُ عاملٍ لآيَاتِ الكِتابِ المَعلُومِ ؟

مُهمِلٌ غيرُ مُبالٍ بِالكتابِ المَرقُومِ ؟ 

أمَّا مَنْ طَابقَت أقوَالُه أفعَالَه أَجَارَته المَلائكةُ في لَحظةِ اضطرَارٍ، ونَصرَه اللهُ في لَحظَةِ انكِسَارٍ، فقد جاءَ في قولِه العَظيمِ بِهذَا القَرارِ : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } النمل62 ، ” ِإذَا دَعَاهُ “ بِكلمةٍ فتكونُ بِإذنِ رَبِّ التَّكوِينِ .

فَسيِّدُنا يُونُسُ عليه سَلامُ اللهِ تعَالى في بَطنِ الحوتِ إذْ نَادى كَلِماتٍ في الظلُماتِ : { .. لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } الأنبياء87 ، فَلَفَظَه الحوتُ مِنْ جَوفِه ونَجَا مِنْ حَتفِه، فكَانَ لَفظُه إلى العَرَاءِ بِفعلِ كلمةٍ هي كَلمةُ الدُّعاءِ، فهوَ مِنَ الأنبياءِ، والأنبيَاءُ فعَّالُونَ لأقوَالِهم، في لَحظةِ عَجزٍ ذَكَرَ ذُو النُّونِ حَقيقَةَ تَخلُّقِه باسمٍ مِنْ أسمَائِه تعَالى له حُظوَةٌ ونُورٌ: ” لا إلَه إلَّا اللهُ حِصنِي مَنْ دَخَلَها أمِنَ عَذَابي “ .. { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } الأنبياء88 ، لَاحِظ قولَه تعَالى : ” وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ “ ، فَبِكلمةٍ تكونُ النَّجاةُ، وبكلمةٍ تكونُ الحَياةُ، فَتَبصَّرْ يَا رَعَاكَ اللهُ وتَدَبَّرْ . 

وحِينَ أَخبَرَ خَاتَمُ الأنبياءِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِه وصحبِه وسَلّمَ صَحبَه بِمَكرُمَةِ سيِّدِنا يُونُسَ عليهِ الصَّلاةُ و السَّلامُ بَادرَ أحدُ الصَّحابةِ بالسُّؤالِ : ” أَهِيَ مَكرُمةٌ لِلبشرِ أمْ مَكرُمةٌ لِلأنبيَاءِ دُونَنَا ؟ أجَابَ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ : إنَّها مَكرُمةٌ لِلبشرِ كَافَّةً ، سَأَله : أَهِيَ خَاصَّةٌ لِسيِّدِنا يُونُسَ بنِ مَتَّى عليه السَّلامُ أمْ لِلمُؤمنينَ عَامةً ؟ أجابَه صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ : بَل للمُؤمنينَ عَامَّةً ” .

وهذَا مَا أكَدَته الآيةُ الكَريمَةُ : { وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } الأنبياء88 ، ” وَكَذَلِكَ “ : تَشمَلُ القولَ والفِعلَ .

ومَنْ يَقُل: “لَا إلَه إلَّا اللهُ” ولا تَنفَعِلُ الأكوانُ له فهوَ مُتلَفِّظٌ لَها دُونَمَا شُروطٍ ولا آدَابٍ مَعَ الاسمِ الإلَهيِّ، فَمَنْ لا تُطابِقُ أقوَالُه أفعَالَه لا تَنفَعِلُ الأكوانُ لِكلِماتِه .

حِينَمَا تَشهدُ المَلائكةُ عدمَ تَطابُقِ أقوَالِكَ مَعَ أفعَالِكَ – وقد سَخَّرَ تعَالى الكونَ لَكَ – و عِندَ عَجزِكَ ..

تَتأهَّبُ الملائكةُ لِنُصرَتِك، فتُحجِمُ عَنك لِتَبدُّلاتِ إرَادتِكَ إذْ لَمْ تُطابقْ أقوَالُك أفعَالَكَ، فَلَا تَتعرَّضُ لِتَغيُّراتِ إرَادَتِكَ المُفتَرَضَةِ بعدَ نُصرَتِكَ ومُؤَازَرتِكَ، وهذَا مِنْ أعجَبِ الأسرارِ التِي أُتِيحُها لَكَ، فلا تَجأَرْ ولا تَجزَعْ على مَا قَدَّرَ اللهُ لك، أمْ تَشكُو اللهَ لِعبادِه في لَحظةِ عَجزٍ ألَمَّ بِكَ، فهل عَبدُهُ قَاضٍ بينَه وبَينَكَ فتَدَّعِي على رَبِّ العِبادِ ؟

فهل يُسأَلُ عمَّا يَفعلُ ؟ { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } الأنبياء23 .

رَبُّكَ فَعَّالٌ لِمَا يَقولُ : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يس82 ، وحتَّى تكونَ مِنْ أهلِ اللهِ تعَالى عليكَ التَّخلُّقُ بأخلاقِه : { وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } آل عمران79 .

عليك أنْ تكونَ رَبَّانيَّ الأخلاقِ، رَبَّانيَّ الوَصفِ، رَبَّانيَّ السُّلوكِ، حتَّى تكونَ أقوالُك مُطابقةً لأفعَالِكَ، فَمَا تَتلفَّظُ مِنْ قَولٍ إلّا وأنتَ له فَاعلٌ، حِينَها تكونُ ممَّنْ أحبَّتهمُ المَلائكةُ فتُعِينُك في كُلِّ المسائلِ، لأنَّكَ تتَّصفُ بِوصفٍ مِنْ أوصافِ الرُّبوبيَّةِ، فَتكونُ رَبَّانيَّاً كَمَا قالَ تعَالى : ” كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ “ ، فهذَا الرَّبَّانيُّ في لَحظةِ عَجزٍ تُسَدِّدُ الملائكةُ كَلمتَه، فَكلمتُه مِنْ وَرَائِها إرَادتُه، وإرَادتُه مِنْ وَرَائِها إرَادَةُ الرَّبِّ سبحَانه { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } الإنسان30 .

وأمَّا أعظَمُ أسرارِ هذَا العِلمِ وأهَمُّ دَقائِقِ هذَا الفَهمِ هوَ أنَّ اللهَ هوَ الذِي يَشاءُ، فإذا شَاءَ شِئْنا، وإذا شِئُنا تَكلَّمْنا، وإذا تَكلَّمْنا وَجَبَ علينا أنْ نَفعلَ، فإذا لَمْ نَفعلْ، نَكونُ قد أسَأنَا لإرَادةِ اللهِ ..

فإنْ عَلِمْنا إرادةَ اللهِ ولَمْ نَفعَلْها، فإنَّه لا يُوازِي هذَا الأمرَ غَضَبٌ إلَهيٌّ مُمَاثلٌ، لِذَا جاءَ في كتابِ الحَقيقَةِ : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } الصف3 .

فأنْ تَزنِيَ يكونُ مَقتُ اللهِ عليك أكيداً وقد يَغفرُ، وأنْ تَسرِقَ يكونُ مَقتُ اللهِ عليكَ أكيداً وقد يَغفِرُ، ولَكنْ أنْ تَقولَ مَا لا تَفعلُ يَكونُ مَقتُ اللهِ عَليكَ كَبيراً لا يُوازِيه في شَيءٍ غَضَبٌ .

لاحِظ أنَّ هذَا الإثمَ قد نُسِبَ لأنوَارِ اسمِ اللهِ الكبيرِ بِإطلاقِ معنَى الاسمِ، فَمَهما بَلَغَ الإثمُ مِنْ كِبَرٍ فهوَ أكبرُ مِنْ ذلكَ، وهذَا مَفهُومُ إطلاقِ مَعنى هذَا الإثمِ، بِبَساطةٍ الآيةُ ووضُوحُها وخُطورَةُ فَحوَى قَرارِها أنَّ أكبَرَ الكَبَائرِ وأعظمَهَا وأهمَّهَا على الإطلَاقِ أنْ تقولَ مَا لا تَفعلُ .

وأغرَبُ مَا في الأمرِ أنَّ أمَّةَ الإسلَامِ اليومَ 1431 هِجرية تَجِدُ فيهِم مَنْ يَكذِبُ ويُقسِمُ على كَذِبِهِ !

فَالفَرقُ بينَ الزِّنَا والزَّواجِ ثَلاثُ كلماتٍ : ( تقولُ المَرأةُ : زَوَّجتُك نَفسِي ، يقولُ الرَّجلُ : قَبِلتُ ) ثَلاثُ كلماتٍ تَفُكُّ الزِّنا في حياةِ الزَّوجَينِ إلى يومِ القِيامَةِ، فتَمَّ سَدُّ حَضَرَاتِ الدَّنَسِ والرَذِيلةِ والمَعصِيةِ وأبوابِ جَهنَّمَ وعذابِ الجَحيمِ بِأربعِ كلماتٍ فقط .

فهَل تَعِي يَا وَليِّي في اللهِ تعَالى أهميةَ الكلمةِ في حَضرَتِك الإنسَانيَّةِ ؟  فتَدَبَّرْ وافهَمْ .

في الحَقِيقةِ كَلامُ النَّاسِ ( يُقدِّمُ و يُؤخِّرُ ) فالكونُ كلُّه كلماتُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ” ففِي البَدءِ كانَت الكلمةُ “ كمَا وَردَ في الإنجِيلِ، فحِينَ تقولُ أنَّنِي أطلبُ علومَ اللهِ تعَالى فعَليكَ أنْ تكونَ فَاعلاً بكلماتِك فَتكونَ طالبَ علمٍ حقاً.

فمَثلاً أذكرُ لكَ أنَّه في مَجالِسِ العلمِ التِّي كُنَّا نَحضُرُها كانَ يَحضرُ المَجلِسَ شخصٌ، وكانَ فَورَ دُخولِه المَسجِدَ يَجلسُ بَينَنا ويَنامُ، بَينمَا كانَ شَيخُنا يُلقِّنُنا العلومَ، يُمكِنُنا أنْ نقولَ أنَّ هذَا الشَّخصَ كانَ يَحضُرُ أحلامَ مَجالسِ العلمِ، كانَ طالبَ نَومٍ لا طالبَ علمٍ، فطالبُ الأحلامِ سَريرُه أحقُّ بهِ مِنْ حَلقَاتِ العلمِ في المَساجِدِ، فهذَا رِياءٌ وعَدمُ تَحَقُّقٍ بالقولِ، أنْ يدَّعِي أحدُهم أنَّه طالبُ علمٍ في حينِ أنَّه غيرُ مُلتزِمٍ بِجلسَاتِه، كَمَا النِّيَامُ في خُطبةِ الجُمعةِ، هذَا مَحْضُ غَرَابةٍ .

ومنهم مَنْ يَحضُرونَ المَوَالدَ النَّبويَّةَ احتِفالاً وحُبَّاً له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولكِنَّهم مُتخَاصمِينَ فيمَا بَينَهم، وقد أمَرَنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ نُفشِيَ السَّلامَ ونُحِبَّ بَعضَنا بَعضاً، هذَا كلُّه والعِياذُ باللهِ تعَالى مِنْ بُحورِ الآيةِ : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } الصف3 .

 


( من كتاب علم رؤية القول بالبصر للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب  ) .


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى