هيكل الهوية الذاتية – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

هيكل الهُويّة الذاتيّة

 

اعلم ياوليّي في الله أنّ هذا الهيكل إنّما سميّ بهيكل الهُويّة الذاتيّة لأنّ الهُويّة ظهرت فيه بتجليّات وتنزّلات فما ثمَّ تجلٍّ أو تنزّل إلا و الهُويّة الذاتيّة بوحدانيّتها تمدّه ، وما مِن تجلٍّ في هذا الهيكل إلا و الهُويّة الذاتيّة هي الظاهرة بصفة ما فيه ، ولعلّ السِمة الأبرز في هذا الهيكل الذي لا أُقيد مما فيه إلا ما يأذن الله تعالى في وارِد الوقت هي أنه مُجملٌ مُفصّلٌ ، فهو في ذاته كتابٌ كاملٌ .
وقد وجدتُ هذا الهيكل على مائة وثلاثة وعشرين مدْرَجاً ، كل واحد منها يصف ما يشيب له العاقل ممّا في تجلّيات تلك الهُويّة ، فقد وجدتُ في هذا الهيكل ولله الحمد أسراراً كثيرةً يشرّفني أنْ أذكر في بداية هذا الباب بما يحصّل العبد سرّ الإمتاع وأي نوع هو ، ففي هذا الهيكل تجد علم الإمتاع وأنّ الإمتاع إنّما يحصل للعبد من الربّ بسببٍ يتبعه سبب ، أمّا الأوّل فهو الاستغفار ؛ وأما الثاني فهو التوبة ، ولا يكون الإمتاع هنا إلا بتتابع السببين ، وأنّ نوع الإمتاع الممنوح للعبد إنّما هو الإمتاع الحَسَن ومنْ كونه حسناً عرفنا أنّه إمتاع خالٍ من القبائح ، فما حسّنه الشّارِع بشرعه لا يُقبّحه عقلٌ ولا غيره ، وهو إمتاع مطلق في الحَسَن يتقلّب فيه العبيد بين ماتع وأمتع ، وفيه أيضاً أنّ الإمتاع واصلٌ إلى أجلٍ مسمّى فعلمتُ أنّ الإمتاع الحَسَن إنّما يدخل تحت رقّ الزمان .
وفي هذا الهيكل أيضاً علم إيتاء ذوي الفضل فضلهم وإنّ هذا العلم مرتبط بعلم الإمتاع من وجه لا من كل الوجوه ، فإذا علِمتَه وجدتَ أنّ الوجه الذي يرتبط به مع علم الإمتاع هو عين السّببين المذكورين سابقاً ، وعلمتَ أنّ تتابع السّببين كما يعطي الإمتاع الحَسَن إنّما أعطى صاحب الفضل فضله ،
وكم عاينتُ في الطريق من يتذمّر من عدم عود الفضل إليه ، ويشتكي ويقول أَنشرُ الفضل بين النّاس ولا يعود عليّ إلا الخسران وكأنّني أرمي فضلي في بحر لا قاع له ، فكنت دائماً أستعين بالله تعالى إنْ لمست فيهم إرادة الله تعالى العناية بهم وأدلّ هؤلاء المتذمّرين على هذين السببين : الاستغفار ثمّ التّوبة إليه ، فإنّ من جمال هذا العلم في هذا الهيكل أن يُؤتى صاحب الفضل فضله لا غير فضل ، فتعلم أنّ الكون مبني من حولك على ما أنت عليه ، ولا يأتيك إلا منك وأنّك إذا عرفتَ أنّه أتاك ما ليس منك تيقّنت أنّ العاطي تعالى زادك منْ فضله على فضلك فليس لأحد غيره حقيقة التفضّل عليك  بما هو ليس منك وبذلك فليفرح المؤمنون ، وفي هذا العلم أيضاً أنّه لا استثناء لصاحب فضل في عود الفضل عليه إذا حقق السببين ، وفي هذا الهيكل أيضاً : علم العبادة الحاضرة وفيه تعرِف أنّ هذين السّببين المذكورين في علم الإمتاع وعلم إيتاء ذوي الفضل فضلهم لا يمكن أن يكونا إلا بوجود العبادة الحاضرة للهُويّة الظاهرة ، وفيه أيضاً منع عبادة غير الله بالعبادة الحاضرة للهُويّة الظاهرة .

وإنّ من علوم هذا الهيكل أيضاً : علم التّولي عن العبادة الحاضرة  فإذا علِمتَه وجدت اسماً يُعبّرعن وصف نادرٍ لليوم الآخر ، وفي هذا العلم تتجلّى لك الهُويّة فيحصل عندك معرفة بأنّ كلّ من تولّى عن العبادة الحاضرة لله تعالى ولم يحقق السّببين دخل في خوف نبيّنا سيدنا محمّد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم عليه من عذاب الآخرة ، وأنّ اليوم الآخر في حقّ هؤلاء المُتولّين إنّما يوصف بالكبر فتجده عليهم يوماً كبيراً ، وشتّان بين من يرى يوم الدين اليوم الآخر وبين من يراه اليوم الكبير ، فإنّ اليوم الآخر إنّما يُؤذّن بنهاية الزمن وأنّ الحاصل فيه إنّما هو النّهايات ، وأمّا من يكون يوم الدين في حقّه يوماً كبيراً فإنه يُؤذّن بتحقّر المتولّي إلى ما لا نهاية من التحقير والصِغر ، فإن الصغير عكس الكبير ويجد كل ما في يوم الدين من مظاهر وتجليات إنّما هو كبير عليه في عذابه على تولّيه ، ولعلّ من أبرز ما شاهدت في هذا الهيكل في وصف هذا اليوم الكبير أنّ الكبيرَ فيه مكسور ، أعاذنا الله من هول ذلك اليوم .

وفي هذا الهيكل أيضاً : علم الإنذار والتبشير المحمّديّين ومنْ أيّ حضرة هذا العلم ، وارتباطه بعلم العبادة الحاضرة للهُويّة الظاهرة ، وأنّه متوجّه على كل الناس، فإذا عاينت هذا العلم من هذا الهيكل علمتَ أنّ الإنذار إنّما كان من الهُويّة ؛ والتبشير أيضاً إنّما هو من الهُويّة ، وتعلم أنّ الاسم الذي خرج منه هذا العلم إنّما هو من اسمه الخبير الذي فصّل ما في الاسم الحكيم ، وأن هذا العلم من علوم التفصيل في هذا الهيكل .
ومن علوم هذا الهيكل أيضاً علم المرجعيّة إلى الله تعالى وفيه قدرة القادر سبحانه وتعالى على إرجاع الكلّ إليه ، فهو على كل شيء قدير .
وفي هذا الهيكل أيضاً : علم الإحكام ، فإذا عاينته عرفتَ أنّ الإحكام في هذا الهيكل إنّما يقع على التفصيل ، فالإحكام عالمٌ تفصيليٌ ، وهذا العلم من علوم بوابة هذا الهيكل التي جَمعت بين علوم اللَّغز وعلوم الإجمال وعلم الإحكام هذا وعلم تفصيل الحكمة وعلم تفصيل خبرة الحكمة ، وفيها من علم التعقيب وهنا تعقيب التفصيل بعد الإجمال ، وفي البوابة أيضاً من علم التّبعيض في اللّدنيّة ، وفيها من علم اللّدنيّات أسرار من علم اللّدن الحكيمي ومن علم لدن الخبرة الحكيميّة ، وفيها من علم تراتيب الأسماء الإلهية علم فاعلية حكمة فاعلية الخبرة ، وعلم انفعالية حكمة فاعلية الخبرة ، وعلم فاعلية حكمة انفعالية الخبرة ، وعلم انفعالية انفعالية الخبرة ، ولعلّ من أغرب ما في هذه البوابة من هذه العلوم هو علم مشاهدة اللّدنيّة وعلم مشاهدة خواص التعقيب ، ففي غرابة الأول أنّ اللّدنيّات باطنة ولكنها في هذه البوابة تصبح ظاهرة لمن رزقه الحكيم الخبير قوّة التفصيل في المُجمَل ، وأمّا من غرابة الثاني فهو أنّ من خاصية حروف معينة إلزام كلمات هائلة القدرة والعظمة على أنْ تكون عاقبة لما يسبقها ، كل تلك العلوم من بوابة هذا الهيكل .
ولعل الجدير بالتنبيه هنا أنّ الفرق ما بين بوابة هذا الهيكل وبوابة هيكل الوجدان والوَهب في الإجمال والتفصيل أنّ الإجمال والتفصيل في هيكل الوَهب والوجدان إنّما هو إنزال كوني فيه التفصيل للتّعليل ؛ بينما الإجمال والتفصيل هنا في هذا الهيكل إنّما هو إحكام التفصيل الذاتي ، التفصيل فيه لحقيقة الهُويّة ، بينما في هيكل الوَهب والوجدان تفصيله لمظاهر هذه الهوية ، فتنبّه لذلك فإنّ الكثير من عباد الله لم يرزقوا التفطّن لمثل هذه الأسرار .
ومن علوم هذا الهيكل أيضاً : العلم بالخفايا ، ومنها العلم بذات الصدور ، والعلم بالأسرار ( مِن مَن سرّ في سريرته ) ، والعلم بالإعلان ( مِن مَن أعلن ما في نيّته ) ، والعلم بما يستخفي منه الذين يثنون صدورهم ، والعلم بما يستغشون ثيابهم وأنّ هذا الأخير داخل تحت رقّ الزمان وذلك في المَدْرَج الخامس من مَدارج هذا الهيكل ، ومُعاينُه يعلم طلاقة العلم الإلهي في وصوله إلى أدقّ المعلومات ، وعند هذا المدرج علمتُ خطأ المعتزلة حين قالوا إنّ الله تعالى لا يعلم الأمور الصغيرة التافهة وأنّه منزّه عنها ففي هذا المَدْرَج وضوح تام لطلاقة العلم الإلهي فعلاً وانفعالاً ، لا إله إلا هو حقّاً حقّاً إنّه بكل شيء عليم .
فإنّي لما عاينت هذا المَدْرَج وجدتُ فيه من علوم الخَفاء ما يتعلق بذاتيّة الإنسان وأفعاله وأقواله ونواياه وليس في هذا المَدْرَج من علوم الخَفاء الخاصّة بالأكوان كعِلمِه بنملةٍ تحت صخرة وما شابه ذلك .
واعلم ياوليّي في الله تعالى أنّ الله الذي لا إله إلا هو عرّفني عند مُعاينتي لهذا المَدْرَج الخامس من هذا الهيكل أنّ هذا المَدْرَج هو خاتَم البحر الحادي عشر من البحور الجامِعة للهياكل ، فانظر رحمك الله تعالى عظمة البديع سبحانه في خِتام البحر الحادي عشر كيف أنّه مناسب لعدد اسمه « هو » ، وكيف أنّه واقع في هيكل الهُويّة الذاتيّة أصلاً ، وكيف أنّ عدد المَدْرَج هو الخامس ، وتعلم ما في الخمسة من مُشاكلة مع حرف الهاء الذي هو رمز الهُويّة الحافِظة لنفسها والتي تحفظ غيرها .
واعلم حقّقنا الله تعالى وإيّاكم بعلوم هذا الهيكل أنّي عندما وقفت في مقام مَرَج البحرين يلتقيان وقمتُ في حقيقة بينهما برزخ لا يبغيان نظرتُ إلى البحر السابق فوجدته البحر الحادي عشر على عدد الهُويّة، وقد جاور بمعرفة الهُويّة حقيقتي البرزخيّة ، وعندما نظرت إلى البحر المجاور اللاحق وهوالبحر الثاني عشر من بحور هيكل الهياكل والذي مُفتَتحه في هيكل الهُويّة هذا ، فإذا به يبدأ بكتابٍ مُبين، والجميل بالذّكر هنا أنّه في المَدْرَج السادس من هذا الهيكل، فإذا بي أنظر إلى البحرين متحقّقا ببرزخيّتي فإذا بالخمسة سابقة والستة لاحقة ،
فعلمتُ في ذاك الوقوف أنّي بين هاء و واو فيه علم الإبانة ، وأنّ الهُويّة اكتنفت مَظهرها ، ففي الهاء بَطَنْتُ فيه وفي الواو ظَهَرْتُ عليه عرفتُ حقيقة ألا كلّ ما خلا الله باطل ، وشهدت السرّ الذي منه قال حبيبي المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنّه شابَ عند معاينة سورٍ بعينها من القرءان الكريم .
فمن علوم هذا الهيكل في مَدْرَجِه السادس من هذا البحر علم أرزاق دواب الأرض ، وفي هذا العلم عاينتُ الضّمان الإلهي في عالم الأرزاق لكل دابّة على الأرض ، فسررتُ بذلك سروراً عظيماً لما فيه من التطمينات الإلهيّة للحضَرات الإنسانيّة بضمان رزق كل منْ يدبّ على الأرض ، ولا شك أنّ النوع البشري ممِن يدبّ على هذه الأرض .
ومن العلوم أيضاً : علم مستقر دواب الأرض، وعلم مستودع دواب الأرض ، وعلم الكتاب المُبين الشامل للعلوم الثلاثة المذكورة ، وقد حصل لي أنّي سألته أنْ يعرّفني علم هذا الكتاب المبين فإذا به بعظيم فضله يُشهدني كتاباً مبيناً واضحاً اكتتب فيه العالمين يعطي الناظر في صفحاته معرفة عالية يتيقّن معها أنه ما من شيء في هذا العالم إلا وهو رزق لآخر منه ، وأنّ هذه المعرفة هي مَسطورُ الهُويّة الذاتيّة في رقّها المنشور الأعظم ، كما يعطي هذا الكتاب المُبين الناظر فيه بالخاصيّة معرفةَ ذاتيّة الرزق في المرزوق ، ومن هذا السرّ يعلم كلّ أحد أنّ رزقك يتبعك كما يتبعك ظلّك ، فكما أنّ الظل ذاتيّ فيك يستطيل عنك إلى غيرك دون أنْ ينفصل عن ذاتك ، كذا رزقك تجده حولك إلا أنّه لك ذاتيّاً ، وكما أنّ ظلك ينقبض إليك عند ظهور النّور عليك كذا يكون رزقك حين إشراق نور هُويّتك فيك منك فرزق كل أحدٍ ذاتيّ فيه له منه ، وما أشد معرفة حبيبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الحقيقة حين تحقّق بها ذاتياَ بهُويّةِ الذاتيّة فما كان له إلا أن قال لمن انتظره أنْ يفطر معه بعد صوم طويل : « إنّي أبيتُ عند ربّي يُطعمني ويَسقيني » ففطروا و واصل صيامه على رزقٍ ذاتيّ في هُويّته ، ومن هنا تلوح لك أسرار اسمه الصّمد  مع الإقاتة فإنّ من خواص هذا الاسم إذا تحقّقتَ بالهُويّة ألّا تشعر بالجوع ما دمت تذكُر هذا الاسم ولم تُدخل معه في الذِكر غيره من الأسماء ، فإنه اسم ذاتيّ لا يعرف حقيقته إلا قلبٌ شرّفه الله تعالى بالتجلّي القلبيّ الصمدانيّ .
ومن سرّ العدد هنا وهو عدد هذا المَدْرَج أنّ السِتّة تحفظ نفسها ولا تحفظ غيرها ، فعادَ الحفظ ذاتيّاً ، فانظر الإبداع الإلهيّ في مناسبة العوالم لبعضها البعض في هذا الهيكل ، ومن هذا الهيكل أيضاً فتح الحقّ لأصحاب النظر العقليّ أنوار هذا المَدْرَج حتى قالوا : « أنت حقيقة ما تأكل » ، و « قل لي ماذا تأكل أقل لك ماذا أنت » ، فإن حبيبي الله تعالى قال : 
{ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ } ، والطعام رزق وقال حبيبي أيضاً :  { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } وما ذلك إلّا لتكونوا أطايب هذا العَالم فإنّك إنْ حقّقت هذا السرّ منْ هذا الهيكل وجدت أنّ طعامك وشرابك الذي هو رزقك سبب من أسباب الحقّ في إبقاء حياتك عليك ، وبالجملة فإنّ كل لقمة ورشفة هي جزء منك ، ومُجمل ما تأكل و تشرب في سِنِيْ حياتك هو أنت، فكيف يأكل أو يشرب جزءَك أحدٌ غيرُك ! هذا من أوضح ما تُعاين في الكتاب المبين .
كنت بعد هذا النظر في الكتاب المُبين أُعاين الجَمع يشربون من إبريقٍ واحدٍ فيه رزق كل واحد منهم مُجملاً مُستقرّاً ثم يُودع في فم كل واحدٍ منهم مُفصّلاً مُودعاً فتنموا من روح تلك الشربة بقائيّة كل فرد منهم، ولا يعرفون أنّ جزءاً منهم كان مُجملاً مع أجزاء بعضهم في الإبريق ، وكنت أرى أجزاءهم المُجملة في الإبريق مكتوبة لأفرادهم في ذاك الكتاب المُبين حتى أنّ من الأباريق ما يحوي أجزاء بعض أفراد الإنسان مع أجزاء ليست للإنسان أصلاً ، فكمْ وكمْ قرأتُ في ذاك الكتاب المُبين رشفتين واحدة لإنسان؛ والثانية لقطّة أُجمِلتا في حلبة ضرعٍ واحدٍ ، فلا الإنسان يرشف جزء القطّة؛ ولا القطّة ترشف جزء الإنسان ؛ ولكل جزء مقسوم في الكتاب مسطور هو له ؛ وهو به ؛ هو هو ، وكم قرأتُ في هذا الكتاب المُبين أنّ رزقاً ليس هو لزيدٍ مِنَ النّاس وإنْ حُقِن به حَقناً لا ينمو منه ويخرجه كما هو على تعدّد الخروجات ، وكم عاينتُ في هذا الكتاب أناساً انتهت أرزاقهم الدنيويّة ، فحُقنوا بمختلف أجزاء الرزق وهُويّتهم ترفض كل ذلك وتأبى إلا الانفصال عن هذا الرزق الماديّ للتحول إلى عالم البرزخ ، وممّا عاينتُ في هذا الكتاب أنّ دماً يُخلق في إنسان هو جزء آخر لا ينمو عليه ، هو مما استقر وأُودِعَ فيه ، فهو أمانة تُستخلص منه مِنْ مُستودعها حتى ترحل إلى إنسان آخر هو هُويّتها ويكون مستقرها فتكون جزأه الذي ينمو منه ، وترى الإنسان المستودع هذا الجزء يقول دمي وجزئي وهو صادق فيما يراه ، ولو عَلِمَ ما هو مَسطور في الكتاب المُبين لقَال دمُ أخي ومستقرّه كان عندي وديعة وعارية مُسترجَعة ولكن هيهات هيهات أين مَنْ يبصر ذلك الكتاب على ظهوره وإبانته و وضوحه ، فإذا فهمت هذا الرزق في الماديّات فتعالَ معي أبيّن لك سطورا من هذا الكتاب في المعنويّات فإنّ الرزق المعنويّ أشدّ لُطفا وخفاء في هذا الباب فإنّ كاتباً يكتب أفكاراً هي رزق لحضارة قادمة ، وجزؤها المعنويّ المقسوم لها ، وليس له بصفته كاتباً إلا أنْ دوّنها وكان آلة إنزالها من مَلَكوتها إلى مُلكِها وتراه إذا كان صاحب نظر عقلي يقول : كتابي ، وأفكاري ، ونتاجي ، وخلاصة فكري ، وعلومي وهو في الكتاب المُبين عند صاحب الشهود لهذا الكتاب المُبين ليس له شيء مما ذكر إلا أنْ شرّفه الله تعالى بإطلاعه على ما أظهر منه ، ولقد عرفتُ مِنْ الأولياء مَنْ يتأدّب في هذه الحضرة مع الله تعالى ويقول ببراءته من هذا الرزق المعنويّ ويتحقّق بجهله على وِسع ما مرّ به من علم فتراه يقول إذا عُرِضت له تلك الحضرة : « الله أعلم » ، ومنهم مَنْ يقول : { .. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ {67} يوسف ، ومنهم مَنْ يقول : { .. وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا {411} طه ، ومنهم مَنْ يقول : « إنّ العلم لله وحده »، ومنهم مَنْ يقول غير ذلك كل منهم حسب شهوده للحضرة التي نطق عنها ولولا وارِد الوقت لفصّلت في تلك الحضرات ، ومن أين نطق كل واحد منهم إلا أنّ الاستطراد هنا ينافي الحكمة العلميّة وأقول بمثل هذه المُعاينة للكتاب المُبين إذا عرفها العالِم المسمّى عالِماً بتسمية العليم سبحانه وتعالى له ، كان مِمَن يخشون الله تعالى فإنّ خشية العلماء للعليم لا تأتي عن علم فقط بل لا بد أنْ يتبعها شهود و مُعاينة لحقائق ما علموه معرفة ذوقيّة .
لقد استبشرت استبشاراً كبيراً لم تسعني معه الأرض ولا سمواتي عند مُعاينتي في كتابي المُبين حقيقةً في رزقي المعنويّ العلميّ الذاتيّ ، فقد وجدت هُويّتي مُدرَجة في ذلك الكتاب مع ديوان المخصوصين في ذلك الكتاب ، فوجدت منهم أنّ الله سبحانه وتعالى سطر في الكتاب اختصاصاً للشيخ البخاري حيث حفظ له كتاب الحديث الشريف عنده فلم يُظهِره على يد أحد قَبل البخاري رحمه الله تعالى ، ورأيتُ اختصاصاً بكتاب إحياء علوم الدّين حفظه الله تعالى من الأزل للشيخ الغزالي فلم يُخرجه إلا على يده الشريفة رحمه الله تعالى اختصاصاً إلهياً وتشريفاً بديعاً ، وكذا حفظ كتاب البرهان في علوم القرءان اختصاصاً إلهياً بالشيخ الزركشي فلم يظهره إلا على يده الشريفة رحمه الله تعالى ، كما أنّ الفتوحات المكيّة لم تظهر على غير صاحبها رحمه الله تعالى فإنّها رزقه ، وجزؤه المعنويّ وكذا هذه السطور التي يتحفني الله تعالى بها فإنّي أعلم أنّها جزئي المعنويّ في عالم الرزق ، والذي عاينتُه كما عاينت الكثير مما اختصني به الحقّ سبحانه وتعالى في كتابه المُبين ولا أقول ذلك فخرا وسمعةً ورياءً معاذ الله تعالى بل هو تحديث بنعمة الربّ عليّ { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ  {11} الضحى ، ومن تحديثي بنعمة الله تعالى الذي أعلم أنّه يحب أنْ يرى أثر هذه النعم علي فإنّ سعادتي كانت كبيرة عندما وجدت أنّ حبيبي الله تعالى قد اختصني بأرزاق معنويّة هي علوم ومعارف في الروح وحروف القرءان وأسرار في التجليات والتنزلات ادخرها لي منذ صدر الإسلام ، فلا تظهر إلا مِنْ قلبي وعلى يدي ولساني ، فأنال بهذا الظهور العلميّ صدقة جارية لأنّ العلم صدقة جارية تتكوّن عنها جبال من الثواب الله أعلم بها هي جزئي المقسوم لا محالة ، ولعليّ في هذا المقام أضع جناح الذل والخشية لله الغني الحميد فقراً إليه فإنّي لما أَنزلت إليّ من خيرٍ فقير ، وفوق عِلْمي أنتَ العليم ، وكيف لا أفتقر في غنايَ لغِنَاك ، وفقري وغِناي فقيران لغِناك ، وكيفَ لا أجهل أمام عِلمك وأنا في علمي جاهل لعِلْمِك لا إله إلا أنتَ زدني علماً ، واعلم ياوليّي أشهَدَك الله الكتاب المُبين أنّ مَنْ يقرأ هذه السطور لا بد أنْ يلاحظ أنّ الفتوحات المجدّديّة هذه وإنْ كانت أرزاق معنويّة علميّة لأجيال قادمة إنْ شاء الله تعالى إلّا أنّ في جانبها الاختصاصي وثوابها هو جزئي المقسوم ، وهذا من فضل ربّي فاستبشروا بما تقرؤون .
فيا مشاركي في هذا المَسطور ، اعلم أنّ مِنْ معارِف هذا الكتاب المبين وجود أرزاق معنويّة وماديّة ، وأنّ الرزق المادي مهما كُتِب له الدوام فإنّه لا يقوى قوّة دوام الرزق المعنويّ ، فإنّ 
جزأك المقسوم من أرزاقك المعنويّة العلميّة تدوم عبر الزمان ، وإلى هذا أشارت النصوص الشرعيّة الواردة في العلم وأنّه صدقة جارية يموت صاحبها و تبقى جارية عليه بالفوائد والعوائد ، ولقد عَاينت في كتابي المُبين في هذا الخصوص انتشاء الملائكة من عين الهُويّة الذاتيّة ، وخصوصاً الملائكة التي تُخلَق من تسبيحة الإنسان فإنّك إنْ سبّحت الله تعالى خَلَق من تسبيحتك تلك مَلَك مُسبّح لك ثواب تسبيحه إلى يوم القيامة ، وهذا المَلاك المخلوق من تسبيحتك وإن كانت تسبيحتك هي جزؤه المقسوم فإنّ الملاك بكل تسبيحاته هو جزؤك المقسوم ، فإنّ الله بهذا الملاك يمدّ عوالم رزقك وينمّيها جبالاً من الحسنات والثواب لا يحيط بأبعاده على الحقيقة إلا العليم الرزاق، وأضرِب لك مثالاً مادياً أُردِفه بآخر روحي للتوضيح والتفهيم ، فإنّ لُقمة هي فستقة هي جزؤك المقسوم يأكلها غيرك فترفضها عوالمه فيلفظها ، فإذا بها تعود إليك فتقبلها هُويّتك، في حين لم تقبلها هُويّة غيرك ، فكلٌ ميسرٌ لما خُلِق له حتى جزؤك المقسوم من الرزق ، وكم من طفلٍ تمضغ لُقمته بفم أمه حتى إذا صارت سائغة رجعت إليه ليأكلها فتتغذى روحه بروح اللُقمة ، وتلفظ أمعاؤه موادها التي هي ليست جزأه المقسوم له من الأرزاق ؛ بل هي جزء نبات يعتاش عليه يستقذره صاحب الأمعاء اللافظة ويستطيبه سماداً فاخراً من كان جزءاً له ؛ هذا المثال الماديّ ، أمّا المثال الروحيّ على هذه المسألة فإنّ زانية تتعذب في جهنم بجزء مقسوم لها استطابته في الدنيا رزقاً حراماً ، واستقذرته في الآخرة عذاباً غراماً فما هي استلذّت في دنياها إلا بجزئها المقسوم في هُويّتها ، ولا تعذّبت في أُخراها إلا بجزئها المقسوم لها في هُويّتها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، ولو علِم أهل الدنيا حقيقة هذا القانون في الكتاب المُبين لما تجرأ على عصيان الحقّ في أيّ دستور من دساتيره الشرعية أحد ، حتى أَنّي عندما أذكر هذه الحقيقة لا أجد في قلبي لساناً يقول سوى ما قيل في سورة ياسين بلسان الحق : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ .. {03} يس ، فتنبه لما أبيّن لك فإنّ السلامة في هذه المعامك عزيزة ، فما كان لك فلن يُخطئك ، ولن يكون لغيرك ، ولن يأتيك بقوّتك ، فإنّه تجلّي هُويّتك الذاتيّ وما كان ذاتيّاً لا يكون لغير ذاته ، وما لم يكن لك فلن تأخذه بقوّتك فإنّه تجلٍ ذاتيّ من تجليات هُويّة المُتجلّي، وما كان ذاتياً له لا يكون لك ، ألم ترَ أنّ لفظ الجلالة الله لما كان اسماً ذاتيّا كيف أنّه امتنع على أي مخلوق أن يُسمى به ، وكيف أنّ اسم العبد اسماً ذاتيّاً لكل مخلوق فلا يكون اسماً لله فالذاتيّ لا يكون إلا لحقيقة هُويّته الذاتيّة ، فويلٌ لمن كان الإلحاد صورة من صور هُويّته الذاتيّة وجزؤه المقسوم ، وطوبى لمن كان الروح والريحان والنّور والعرفان والحب والوجدان صورة من صوره الذاتيّة وجزؤه المقسوم بين أرزاق العالمين ، الّلهم حقّقنا بهُويّتك حتى نعلم ونعرف حقّاً حقّاً أنّك أقرب إلينا من حبل الوريد فتكون سمعنا الذي نسمع به ، وبصرنا الذي نبصر به ، ولساننا الذي ننطق به ، ويدنا التي نبطش بها وقدمنا التي نمشي بها كما جاء في الحديث الشريف فتكون الربّانيّة جزأنا المقسوم ونكون ربّانيّين بين يديك بهُويّة ذايتّة حقّاً تنفيذاً لأمرك { .. كُونُوا رَبَّانِيِّينَ .. {97} آل عمران ، فنكون مُستودَعها ، وتكونَ مُستقرّنا ، ويكون كل ذلك مسطوراً في كتابك المُبين تحقّقاً وتخلّقاً آمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
فانظر فتح الله بصيرتك وبصرك لمعاينة هذا الكتاب المُبين أهمية ما سُطِر فيه ، حتّى جعله الله تعالى مدخل البحر الثاني عشر لما فيه من تحقيق للذاتيّات ، وبالتالي تحقّق بهُويّة تلك الذاتيّات ، ولا تظن رعاك الله أنّ هذا الكتاب المُبين هو نفسه اللوح المحفوظ أو أنّه الكتاب المسمّى ، فإنّ اللوح المحفوظ شمل هذا الكتاب وغيره ، فتنبه ترشد .
فيا وليّي في الله نبّهك الله على حقيقة التجلّي الذاتيّ في جزئك المقسوم لك أنّ هذه المعرفة تكسب صاحبها بصيرة من نوع ما ، وعلم يحملك إلى مدارج الرضى والتسليم ، وإليك مثال ذلك في حدث جرى مع مُريدَين في طريقنا المُجدّديّ وكانا يتردّدان عليّ طلباً للصُحْبة عندما انتقلتُ إلى عمّان ، حيث كانا يسافران من حلب إلى عمّان في كل شهر فيُمضيان معي بضعة أيام نتطارح فيها المعارف والعلوم ، فحدث ذات مرّة أنْ أعطت الزوجة هاتفها النّقال ( وهو وسيلة اتصال سمعيّة لاسلكية ) إلى زوجها وما إنْ وصلا إلى الزاوِيَة حتى وجدا أنّ الهاتف مفقود ، فمثل هذه المعرفة هنا تُلغي اللوم والشكوى في فقدان الهاتف النقال فإنّ الجزء المقسوم لها فيه من كونه رزقاً تستفيد منه قد استنفذته ، وبات ذات الهاتف النقال جزءاً مقسوماً لغيرها له فيه استفادة ، ومن وجه آخر معرفة هذه الأسرار تذهب بها إلى رؤية ما انقطع من تجليات هُويّتها الذاتيّة حتى انتهى تجلّي الجزء المقسوم لها في ذاك الهاتف النّقال ، فإنْ عَرِفتْ أعادت نيّتها وتجلّت ذاتيّاَ فعاد الهاتف النّقال لها جزءاً مقسوماً ، وإنْ لمْ تعرِفْ صارت نيّتها تجليّاً ذاتيّاً يقسم لها جزءاً مقسوماً جديداً هو هاتف نقّال آخر .
ولا يظن أحد من كلامنا هنا أنّ الإنسان رازق نفسه ؛ لا ، بل الله هو الذي يرزقه إجمالاً وتفصيلاً بما هي عليه هُويّته الذاتيّة ، فقد قال حبيبي عز وجل في صُحُف إبراهيم وفي القرءان الكريم :
{ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ {93} وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ {04} ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ {14} النجم ، فهو الرزّاق جلّ وعلا وتُجزى أنت منه الجزاء الأوفى .

 

والله يقول الحقّ وليس أنا وهو يهدي السبيل وليس أنا والحمد لله ربّ العالمين

 


( من رسالة المجددية الأولى في الإشارة عن الهياكل النورانية للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب  ) .


 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى