أين مقام الأنبياء من مقام الأولياء – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

أينَ مَقَامُ الأنبياءِ مِنْ مَقَامِ الأولِيَاء ؟

– قَوْلُ الحَكِيمِ التِرمذيِّ رَضِي اللهُ تعالى عَنْهُ :

السؤال الثامن عشر : و أينَ مَقَام الأنْبِيَاء مِنَ الأوْلِياء ؟

الجواب : (( هو خُصوصٌ فيه، و هو بالإزاء أيضاً، إلا أنّه في المَقام الثالث من الدعوة )) [1] .

قال المَلِك العَبْد : ما قَوْل الشَارِح النّصير في توضيح هذا الجواب القصير ؟

قال الشَارِح : هو – أي السؤال – عن مَقَام الأنْبِيَاء ، و القصد أنّ مَقَام الأنْبِيَاء خُصُوصٌ في مَقَام الأوْلِياء ، و هو أيضاً بالإزاء مِنْ وَجْهٍ آخر، إلا أنّه مِنْ وَجْه الدّعوة ليس مِنْ وَجْه الخُصُوص و لا مِنْ وَجْه الإزائيّة ، في مَقَامٍ له المَرتَبَة الثالثة بعد صاحِب المَرتَبَة الثانية، و الذي هو بَعْدَ صاحب المَرتَبَة الأولى و هو الإيمان ، و للذَوْق المُجَدّدِيّ نِسَبٌ في هذا الترتيب أظنّ أنّه قادمٌ إنْ شاء الله في جُمْلَة أذْوَاقِه ، و الله يقولُ الحَقّ و هو يهدي السَبِيل .

قال المَلِك العَبْد : فليَصعد على مِنْبَري نائب الوَصْل الأكْبَريّ و يُتحِفنا بمَا قال في ذَوْقه هذا السؤال . 

– قَوْلُ الأكْبَريِّ قدّسَ اللهُ تعالى سِرَّهُ : 

أجابَ الأكبَريّ قدّس الله سرّه عنْ سؤال الحَكِيم حول مَقَام الأنْبِيَاء مِنَ الأوْلِياء بـ :

هو خُصوصٌ فيه ، و هو بالإزاء أيضاً ، إلا أنّه في المَقَام الثالث على ما تقدّم مِنَ المَراتِب ، و كان ينبغي أنْ يكون السؤال عن هذا بتفصيلٍ بين نُبُوّة الشّرائع و النُبُوّة المُطْلَقَة ، فهم مِنَ الأوْلِياء إذا كانوا أنْبِيَاء شَريعَة في الدرجة الثالثة ، و إنْ كانوا في النُبُوّة اللُغَوِيّة فَهُم في الدرجة الثانية ، و اعلم أنّ الأولياء هم الذين تَوَلّاهم الله بنُصرَته في مَقَام مجاهدتهم الأعداء الأربعة ، الهَوى و النَفْس و الشَيطان و الدّنيا ، و المعرفة بهؤلاء أركان المعرفة عند المُحاسبي [2] ، و إنْ كان سؤاله عن مَقَام الأنْبِيَاء مِنَ الأوْلِياء ، أيْ أنْبِيَاء الأوْلِياء ، و هي النُبُوّة التي قلنا أنّها لم تَنْقَطِع ، فإنّها ليست نُبُوّة الشَرائِع .

و كذلك في السؤال عن مَقَام الرُسُل الذين هم أنْبِيَاء ، فلنَقُل في جوابه أنّ أنْبِيَاء الأوْلِياء مَقَامهم مِنَ الحَضْرَات الإلهيّة الفَرْدَانِيّة ، و الاسم الإلهيّ الذي تَعَبَّدَهُم .. الفَرْد ، و هم المُسَمَوْنَ ” الأفْرَاد “ ، فهذا هو مَقَام نُبُوّة الوِلَاية لا نُبُوّة الشَرائِع ، و أمّا مَقَام الرُسُل الذين هم أنْبِيَاء ، فهم الذين لهم خصائص على ما تَعَبَّدُوا به أتْبَاعهم [3] ، كمُحَمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما قِيْلَ له خالِصَةٌ لك مِنْ دُون المُؤمنين في النِكَاح بالهِبَة ، فمِنَ الرُسُل مَنْ لهم خصائصُ على أُمّتِهم ، و مِنْهم مَنْ لا يختصّه الله بشيءٍ دون أمّته ، و كذلك الأوْلِياء ، فيهم أنْبِيَاء ، أيْ خُصّوا بعِلْمٍ لا يَحْصُلُ إلا لنَبِيّ مِنَ العِلْم الإلهيّ ، و يكون حُكمهم مِنَ الله فيمَا أخبرهم به حَكْم الملائكة ، و لهذا قال في نَبِيّ الشَرائِع { مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [4] ،  أيْ ما هو ذَوْقك يا موسى ، مع كَوْنه كَلِيم الله تعالى ، فخرق السفينة و قتل الغلام حُكْماً ، و أقام الجدار مكارم خُلُقٍ عن أمرٍ إلهيٍّ كخسف البلاد على يَدَي جبريل عليه السلام و مَنْ كان مِنَ الملائكة ، و لهذا كان الأفْرَاد مِنَ البَشَر بِمَنْزِلَة المُهِيْمِيْنَ مِنَ الملائكة ، و أنْبِيَاؤهم مِنْهم بِمَنْزِلَة الرُسُل مِنَ الأنْبِيَاء ، اهـ .

– قوْلُ المُجَدّدِيِّ – الهَانِي : ذَوْقُ السُؤَال :

قالتْ رسالة الوَليّ في أيْنِيّة المَقَام (( 1- الأنبياء خًصوصٌ في الأوْلِياء )) و هذا ذَوْقٌ عرفانيٌ أكْبَريٌ و مُجَدّدِيٌّ .

و الذَوْق المُجَدّدِيّ يقول : الدائرةُ دائرةٌ على أركان بيت الدّين، فالأنْبِيَاء خُصوصٌ في الأوْلِياء ، و الرُسُل خُصوصٌ في الأنْبِيَاء، ففي المَرَاتِبِ الأمرُ كالتالي :  

الإيمان و الوِلَايَة و النُبُوّة و الرِسَالَة ، و هذا قَوْل عَالَم المراتب و قَوْل العَامّة .

أما قَوْل النّور المُقَدّس فهو :

كَوْن الإيمان نورٌ في الوِلَاية و الأنْبِيَاء و الرُسُل .

و ما قَوْل الفَلَك الأعَمّ :

كَوْن الوِلَاية نورٌ في الأنْبِيَاء ثمّ الرُسُل ثمّ الإيمان .

و أقولُ : كلٌّ له نِسْبَته ، و لا يصِحّ الكلام قبل تحديد النِسْبَة .

و إنّما أقولُ ذلك لإن لا يختلط فَهْم التّصنيف في عين التّكثيف ، فالأربعة مَقَام القُرْبِ في الإجْمَال ، و بلا تحديدٍ للنِسْبَة يزول التمييز ، فرسولُ الوَلِيّ ليس كرَسُول النَبِيّ ، و لا كرَسُول الرَسُول ، و النَبِيّ الرَسُول ليس كنَبِيّ الوِلَاية ، و إيمان الرَسُول ليس كإيمان الوَلِيّ ، و كلاهما واحدٌ و هو عين الإيمان .

قال المُجَدّدِيّ : الكلام على الأنْبِيَاء و الأوْلِياء مِنْ نِسْبَة الخَلْق كلامٌ جميلٌ ليس له في حَضْرة الحَرْف مثيلٌ ، فكلا العبدان الوَلِيّ و النَبِيّ هما ياء النِدَاء مِنْ ” يا الله “ ، و لفظ الجلالة للرَبّ فبقي عندنا يَاء العَبْد ، و هذا أكْبَرَيّ ، أمّا المُجَدّدِيّ فهو عين العَبْدِية مِنْ ياء أوْلِياء و يَاء أنْبِيَاء ، ففي بسط اللفظين نجد :  انبـ  ياء    و    أولـ   ياء .

و لك شيءٌ مِنَ البَسْط في كلٍّ مِنْهما :  

ففي الوِلَاية : كان المُلصَق بالياء لفظ ” أول ” ، و مِنْ هذا الاختصاص الرَبّانيّ كان فَلَك الوِلَاية أعَمّ ، فكلّ نَبِيٍّ وَليٌّ و ليس كلّ وَليٍّ نَبِيّاً ، و ” أول “ مِنْ أوْلِياء نسبة الأوّليّة إلى ياء العُبُودِيّة ، فكان النَبِيّ أوّل الأوْلِياء .

الأوّل هنا ثلاثة حروف هي ألِف و واو  و لام ، فإذا كانتْ الألِف ألِف ” الأوّل “ سبحانه للذات [5] ، فبقي معنى الواو التي تنقل أنوار التجلّي الألِفِيّ إلى المُتْلَقَى و هو لوح اللام ، و عددهما عند أهل الأنْوَار العَارِفِين مِنْهم ستةٌ و ثلاثون /36/ على عدد آيات التّوحيد في المَجِيد ، فتنبّه لسِرّ التّوحيد في أنْوَار الوِلَاية .

و في الأنْبِيَاء : كان المُلصَق بالياء لفظ ” أنب “ ، و من هذا الاختصاص الرَبّانيّ كان فَلَك النُبُوّة ، فالقاعِدة العامّة تقول ” الاختصاص لا يقتضِي الأفضليّة “ إلا أنّ الخُصوصيّة في فَلَك النُبُوّة تقتضي الأفضليّة استثناءً إلهيّاً فتنبّه ! و هذا الاستثناء هو الذي تُثبَّتُ به القاعدة و تُتَوَّج بالكمال .

و النون هنا وقايةٌ للبَاء مِنْ تجلّيات الألِف ، و الحروف هنا ثلاثةٌ الألِف و النُون و البَاء ، فإذا علِمْنا أنّ عدد الأرواح المُدَبِّرَة لهذه الثلاثة هي /53/ ثلاثةٌ و خمسون، نجد أنّ الجَزْم الصّغير هو ثمانية /8/ ، و هي حَاء حَامِيم ، وجود كَمَال الذَاتِ مِنْ وَجْه ، و وجود ذَاتِ النَبِيّ مِنْ حيث هو ابن آدم عليه السلام و مُتَفَرّعاً عن حقيقة أبيه ، فهو بهذا الوَجْه كان ذاتاً [6] ، و الذَات لها الأنَا ، و هنا الأنَا واضحة بالألِف و النُون و البَاء التي هي نائب مَقَام الألِف .

ذَوْقٌ مُجَدّدِيّ آخر : الألِف للذَات و البَاء للصِفَة ، و توسّطَتْ النُون نُون العالَم مِنْ كُنْ مِنْ حَضْرة الأفعال ، و هو هنا مِنْ جِهَة كُلّيّة الإنسان الظاهرة ، و يجمع كلّ ذلك قَوْله تعالى :

{ يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } [7] .

فالأوْلِياء و الأنْبِيَاء هم مَنْ يشاء مِنْ عِبَاده ، و الإنذار مِنْهم أنّه هو المُتَكَلِم بضميره المُنْفَصِل الذَاتِيّ أنَا ، و هذه الأنَا مجازٌ في الإنذار ، إنذار الأوْلِياء مِنْ كَوْنِهم أول و ياء ، فالأنا الإلهيّة هي الأوّل ، و حقيقةٌ في الإنذار في حَقّ الأنْبِيَاء ، فهم رُسُل الذَات المُتَكَلّمَة بـ أنا فاتقون .

النُون و الألِف في أنَا إحدى و خمسون /51/ ، و جَزْمُها الصّغير عند العَارِفِين مِنْ أهل الأنْوَار ستة /6/ و هي عَيْن الواو ، واو أول مِنْ أولياء  و عليه يمكن القَوْل أنّ النُبُوّة خُصوص الواو في الوِلَاية مِنْ كَوْنها ناقلٌ عن الحَقّ رافعٌ للخَلْق إلى الحَقّ هذه نِسْبَة مِنْ وَجْه [8] .

ذَوْق مُجَدّدِيّ آخر : يمكن القَوْل أنّ النُبُوّة إجْمَالٌ تفْصِيُله عند الوِلَاية ، و يمكن القَوْل أنّ الوِلَاية إجْمَالٌ تفْصِيُله عند النُبُوّة و هذا مِنْ وَجْه آخر ، و الله يقولُ الحَقّ و هو يهدي السَبِيل .

قال المَلِك عَبْد المَلِك : ما قَوْل البَاحِث فيما وصل إليه التّدوين مِنْ البَاحِث ؟

انبسطَتْ ثاؤه ، و باحتْ باؤه بسِرّ البداية ، في عَيْن النهاية ، مِنْ حَضْرة توحيد مَجِيد، بقَوْل بَاحِثٍ فريدٍ ، في ثنايا المَبْحَث اللاحِق، موضّحاً المَبْحَث السَابِق .


[1] انظر ختم الأولياء للحكيم التِرمذيّ ورقة ب/242 ، أ /243 الجواب المستقيم .

[2] أحد رجال الرسالة القشيريّة .

[3] هكذا في الأصل و الأفضل كون الابتداء بـ كسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

[4] سورة الكهف الآية /68/ .

[5] أي هي في منازل الرمز ترمز للذات .

[6] ذات حادثة .

[7] سورة النحل الآية /2/ .

[8] و هي نسبة من نِسَب عالم النيابة و هي النيابة البرزخية و معنى الإنسان الكامل .

 


( من كتاب‏‏ نبوغ المجددية في تطوير الأذواق العرفانية للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب  ) .


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى