حَقِيْقَةُ خَلْقِ سَيِّدِنَا آدَمَ
حَقِيْقَةُ خَلْقِ سَيِّدِنَا آدَمَ :
هُنَاكَ مَنْ يَتَسَاءَلُ إنْ كَانَتِ الرُّوحُ قَدْ تَمَّ خَلْقُهَا لَحْظَةَ وُجُودِ الْجَسَدِ الْبَشَرِيِّ أمْ أنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ قَبْلِ وُجُودِ الْجَسَدِ ؟
وَرَدَّاً عَلَى هَذَا التَّسَاؤُلِ نَقُولُ : إنَّ الرُّوحَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْجَسَدِ بِكَثِيْرٍ كَمَا دَلَّتِ الرِّوَايَاتُ فِيْ الْخَلْقِ .
فَإنَّ سَيِّدَنَا آدَمَ خَلَقَ لَهُ جَسَدَهُ وَطِيْنَتَهُ ؛ وَبَعْدَ ألْفِ عَامٍ نَفَخَ فِيْهِ مِنْ رُوحِهِ ، بَيْنَمَا باقي الْخَلَائِق من البشرِ فَإنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ مَنْ تُنَزِّلُ الرُّوحَ فِيْهِمْ .
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ وَغَيْرُهُمَا :عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ : ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً نُطْفَةً ، ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُوْنُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ ، وَيَؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ : بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ .
فَوَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَايَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقَ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا ) (1) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِم .
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ : ( .. وَحَدِيْثُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِجَمِيْعِ طُرُقِهِ يَدُلُّ عَلَى أنَّ الْجَنِيْنَ يَتَقَلَّبُ فِيْ مَائَةٍ وَعِشْرِيْنَ يَوْمَاً فِيْ ثَلَاثَةِ أطْوَارٍ، كُلُّ طَوْرٍ مِنْهَا فِيْ أرْبَعِيْنَ ثُمَّ بَعْدَ تَكْمِلَتِهَا يُنْفَخُ فِيْهِ الرُّوحَ .
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأْطوَارَ الثَّلَاثَةَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ فِيْ عِدَّةِ سُوَرٍ … ) ، إلَى أنْ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : وَزَادَ فِيْ سُورَةِ ( قَدْ أفْلَحَ ) بَعْدَ الْمُضْغَةِ : ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) المؤمنون :14.
وَيُؤْخَذُ مِنْهَا وَمِنْ الْحَدِيْثِ الشَّرِيْفِ أنَّ الْمُضْغَةَ تَصِيْرُعِظَامَاً بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ .
وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِيْ هَذَا الْمَبْحَثِ أيْ فِيْ مَرَاحِلِ تَكْوِيْنِ الْإنْسَانِ أنَّهُ يَمُرُّ بِخَمْسِ مَرَاحِلَ :
الْمَرْحَلَةُ الْأولَى : مَرْحَلَةُ النُّطْفَةِ وَهِيَ أرْبَعُونَ يَوْمَاً.
الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَرْحَلَةُ الْعَلَقَةِ وَهِيَ قِطْعَةُ دَمٍ جَامِدٍ وَتَسْتَمِرُّ أرْبَعِيْنَ يَوْمَاً.
الْمَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ : مَرْحَلَةُ الْمُضْغَةِ وَهِيَ قِطْعَةُ لَحْمٍ صَغِيْرَةٌ وَتَسْتَمِرُّ أرْبَعِيْنَ يَوْمَاً.
وَبَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَهِيَ مَائَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمَاً تُنْفَخُ فِيْهِ الرُّوحُ .
وَقَدْ نَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أنَّ نَفْخَ الرُّوحِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ ، نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ الْفَاضِلِ عَلِيِّ بِنِ الْمُهَذَّبِ الْحَمْوِيِّ الطَّبِيْبِ.
الْمَرْحَلَةُ الرَّابِعَةُ : مَرْحَلَةُ الْعِظَامِ وَقَدْ وَرَدَ فِيْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الَّتِيْ أشَارَ إلَيْهَا الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِيْ شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ أنَّ هَذِهِ الْمَرْحَلَةَ تَسْتَمِرُّ أرْبَعِيْنَ يَوْمَاً .
الْمَرْحَلَةُ الْخَامِسَةُ : وَهِيَ الَّتِيْ قَالَ اللهُ عَنْهَا : ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) المؤمنون 14
وَلِكَلِمَةِ التَّكْوِيْنِ ( كُنْ ) سُلْطَانٌ فِيْ التَّكْوِيْنِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الْكَائِنَاتِ مَوْجُودَةً عَنْ كَلِمَةِ التَّكْوِيْنِ ( كُنْ) ، بَلْ هُنَاكَ كَائِنَاتٌ أوْجَدَهَا اللهُ تَعَالَى لَيْسَ عَنْ كُنْ فَهيَ لَاَتدْخُلُ تَحْتَ سَطْوَةِ وَحَاكِمِيَّةِ وَسُلْطَةِ كُنْ ؛ مِنْهَا هَذَا الْمَخْلُوقُ الْمُسَمَّى ( الرُّوحُ ) ، وَمِنْهَا جَسَدُ سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ خَلَقَهُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ وَنَفَخَ فِيْهِ مِنْ رُوحِهِ وَلَمْ يَخْلُقْهُ بِالْكَلِمَةِ بَلْ بِالنَّفْخَةِ ؛ وَشَتَّانَ بَيْنَ الْكَلِمَةِ وَالنَّفْخِ بِنَفَسِ الرَّحْمَنِ بِلَا كَلِمَةٍ .