بيان أن الله تعالى وضح لنا أمر عقيدتنا – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

بَيانُ أنَّ اللهَ تعَالى وَضَّحَ لَنا أمرَ عَقيدتِنا الإسلاميَّةِ السَّماوِيَّةِ في قرآنِهِ ضِمنَ مَراحلِ الزَّمنِ على يَدِ الرُّسُلِ

وتَفرَّدَتِ الحضرةُ المُحمَّدِيَّةُ بِإبرازِ صُورةِ الجَمعِ على هيئةِ الكمالِ، وإليكَ شيئاً مِنَ التَّفصِيلِ والتوَازُنِ بَينَ الحَضراتِ مَعَ الأدلَةِ .

– في الحَضرةِ المُوسويَّةِ :

قالَ اللهُ تعَالى : { إِذْ رَأَى نَارَاً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارَاً لَّعَلِّي آتِيْكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } طه 10 .

هذِه الآيةُ الشريفةُ في سُورةِ طه كانَت مُقدمةً ومَدخَلاً عَظيماً في السِّيَاقِ القرآنيِّ لِعرضِ المَشهدِ الجَمالِيِّ الجَلاليِّ بَينَ الكَلِيمِ والمُتكلِّمِ سُبحانَه وتعَالى .

فَالرَّسولُ عليه السَّلامُ هنا آنَسَ نارَاً، وتَوَجَّه وُفقَ نِيَّتِه التِي مَحلُّها القلبُ مَوضِعُ الاعتقادِ إلى التحقيقِ مِنَ المُمكِناتِ التِي حَضرَت في دَائرةِ مُمكِناتِه، فهوَ إمَّا أنْ يَقتبِسُ وإمَّا يَجِدُ على النارِ هُدًى، وَقَد وَجَدَ الهُدى هناكَ في البُقعةِ المُبارَكةِ .

وهذِه الآيةُ البسيطةُ ذاتُ بَاعثٍ مُحرِّكٍ بسيطٍ، وقد عَلِمنَا مَا عَلِمنَا في تَكلِيمِه لِلرَّبِّ سُبحانه وتعَالى، والذِي يَلفِتُ الانتباهَ هوَ طلبُ الرُّؤيةِ، وطَلبُه لِلرؤيَّةِ عَنِ اعتقادٍ بوجودِ هذَا المُتكلِّمِ، فأجابَه تعَالى بـ ( لَنْ تَرَانِي )، وجعلَ إحسَاساتِهِ بِجهةِ الجَبلِ وتَجلَّى لِهذَا الجَبلِ فجَعلهُ دَكَّاً فَخَرَّ مُوسى صَعِقاً عليهِ السَّلا مُ .

فَالذِي حصلَ هنا أنَّ سَيدَنا مُوسى عليهِ السَّلامُ شَهِدَ ورَأَى اندِكَاكَ الجَبلِ معَ عِلمِهِ أنَّ اللهَ تعَالى يَتجلَّى عليهِ، ولمَّا جَرى لِلجبلِ هذَا الاندِكَاكَ عرفَ سَيدُنا مُوسَى عليهِ السَّلامُ عِرفانَ تَحقُّقٍ أنَّ هذَا التَّجلِّيَ الإلهيَّ أثَّرَ في الجَبلِ هذَا التأثِيرِ، وعَظمةُ الجبلِ أكَّدَتْ عَظمَةَ المُتجلِّي في تَجلِّيه لأنَّه لايُؤثِّرُ في العَظيمِ إلَّا مَنْ هوَ أعظمُ، فَاللهُ أعظمُ ولا أعظمُ منه، وإذا تَمَعَّنْتَ في عَقيدةِ هذَا المَشهدِ حَقيقةَ تَعظيمِ الفعلِ الإلَهيِّ .

فَالتَّجلِّي فِعلٌ والمُتجلِّي هوَ اللهُ والتَّجلِّي هوَ فِعلُ اللهِ تعَالى، فَالذِي شَهِدَه الرَّسُولُ عليهِ السَّلامُ في هذَا المَشهَدِ حَقيقةَ الفِعلِ الإلَهيِّ، ومَا نَتَجَ عَنْ هذَا الفِعلِ مِنَ اندِكَاكٍ .. ولِعظمَةِ هذَا الفعلِ الإلَهيِّ خَرَّ صَعِقَاً، فَعلِمنَا أنَّ شُهودَه عليه السَّلامُ كُلُّ شُهودِ أفعالِ الذاتِ المُتَّصِفةِ بِالصِّفاتِ الفاعلةِ لِلأفعَالِ، فإذا اعتقَدنَا أنَّ اللهَ هوَ الفعَّالُ لِمَا يُريدُ فَالحضرَةُ المُوسوِيَّة هيَ عُنوانُ هذَا الاعتِقادِ، وهوَ شُهودُ حَضرَةِ الأفعالِ الإلَهيَّةِ. ويُمكِنُكَ أنْ تُلاحِظَ أنَّه كَلِيمُ اللهِ تعَالى، والكلامُ فِعلُ المُتكلِّمِ، ولِهذَا تَجِدُ الشَّريعةَ المُوسويَّةَ كانَت شَريعَةَ أفعالٍ، فَكُلُّ مَا جاءَ في الوَصَايَا العَشرِ هيَ أفعالٌ .. لا تَسرِقْ والسَّرقةُ فِعلٌ، ولا تَزنِي والزنا فِعلٌ .. اُعبُدوا اللهَ والتَّعبُّدُ فِعلٌ .. وبالتالي فإنَّ العَقيدةَ المُوسَويَّةَ في القرآنِ الكريمِ كانَت عِلمَ العَقائِدِ الفعليَّةِ، وهيَ حقيقةُ تَوحُّدِ الأفعالِ في عَقيدَتِنا الإسلاميةِ، وهذَا يَنقُلنا إلى المرحلةِ التاليةِ مِنْ مَراحلِ تَطوُّرِ العقيدةِ السَّماوِيَّةِ، وهيَ المرحلةُ العِيسَوِيَّةُ .

– في الحَضرةِ العِيسوِيَّةِ :

في هذِه الحَضرةِ طُوِيَت حَضرةُ الأفعالِ في حَضرةِ الصِّفاتِ لإظهارِ عَقيدةِ الذَّاتِ بِبُعدِها الصِّفاتِي، كمَا ظهرَت في مَرحلةٍ سَابقةٍ بِبُعدِها الفِعليِّ، فَفِي حَضرةِ الأفعالِ سُمِيَّ مُوسَى عليهِ السَّلامُ كَلِيماً لا مُتكَلِّماً، وهنا في هذِه الحَضرةِ العِيسَوِيَّةِ ظهرَت أمَارَاتُ الصِّفاتِ فَاتَّصفَت بالسِّيادَةِ، وكانَ سَيِّداً وحَصوراً، واتَّصفَ بالحَصُوريَّةِ .

وسمَّاهُ اللهُ تعَالى كَلمةَ اللهِ، وسمَّاهُ رُوحَ اللهِ، فَاتَّصفَتِ البَشريَّةُ بِصفَتِة الرُّوحيَّةِ فَكانَ رُوحاً، وظهرَت الدِّياناتُ العِيسَوِيَّةُ بالصِّفةِ الرُّوحيَّةِ التِي ارتَقَت بِعقائِدِ مُعتَنِقِيها مِنْ حَضرةِ الأفعالِ إلى الصِّفاتِ، فَظهرَت عَقيدةُ التَّسَامحِ مَعَ مَنْ يَصفعُ الوجهَ والاتصَافِ بالمُسامَحةِ والعَفوِ، وظهرَت عَقيدةُ الغُفرَانِ لِتلكَ الخَاطئةِ، وقد اتَّصفَ بِالغفرانِ وهوَ طِفلٌ لأمِّهِ البَتولِ، التِي لَمْ تُمارِسْ فعلاً لِحَمْلِه مِنْ جِماعٍ وغيرِه مِمَّا هوَ مَعروفٌ مِنْ أفعالِ التَّوَالُدِ والتَّكوِينِ، إنَّمَا كانَت مُتَّصِفةً بِصفةِ الاستِسلامِ لإرَادةِ الخَالقِ، وكانَ وُجودُه عليهِ السَّلامُ في رَحِمِها عَنِ اتِّصافٍ مَلَكِيٍّ بِصفاتِ بَشريٍّ سَوِيٍّ كَاملِ الأوصَافِ البَشريَّةِ، فكانَ الاتِّصافُ أساسَ الفعلِ وظُهورِ التَّكوِينِ، ولاتِّصافِه بِالطُّهرِ سَرَى هذَا الطُّهرُ في تَطهِيرِ غِشاوَةِ الظَّلامِ عَنْ بَصرِ الأعمَى، وبِتَطهيرِ جسمِ الأبرَصِ مِنْ دَنَسِ المَرَضِ ..الخ .

وهَكذَا كانَت هذِه المَرحلةُ بَينَ حَضرةِ الأفعالِ وحَضرةِ الذاتِ، وهيَ حَضرةُ الصِّفاتِ، و كانَت هذِه المَرحلةُ جَمْعَ عَقائِدِ الدِّيانَةِ السَّماويَّةِ العِيسَويَّةِ، وهيَ عِلْمٌ يُبلوِرُ حَضرةَ الصِّفاتِ الإلَهيَّةِ، وقد جَعلَ اللهُ تعَالى كُلَّاً مِنَ الحَضارَتينِ المُوسويَّةِ والعِيسوِيَّةِ جُزءاً لا يَتجزَأُ مِنْ قرآنِ المُسلمِ الذِي هوَ كِتابُه المُقدَّسُ ومُعجزَةُ نَبِيِّهِ الكاملِ، لِيُحيطَ بِجُزئياتِ عَقيدتِه وَتَرَقِّيهَا، ولِيَكونَ جَامعاً كامِلاً ثَابتاً في حَضرةِ أفعَالِه وصِفاتِهِ وذَاتِهِ .

ثُمَّ تَوَجَّهَ الخِطابُ القرآنيُّ في مَسيرَةِ هذِه العَقيدةِ السَّماوِيَّةِ إلى تَوحِيدِ الأفعالِ وتَوحِيدِ الصِّفاتِ لِيَرتَقيَ بِنا إلى تَوحِيدِ الذاتِ جَوهَرِ العَقيدةِ السَّماوِيَّةِ، وذلكَ في الحَضرَةِ المُحمَّدِيَّةِ .

– الحَضرَةُ المُحَمَّدِيَّةُ :

هذِه الحَضرةُ بَلَّغَتِ العَقيدةَ السَّماويَّةَ أوجَ قِمَّتِها وتَمَامَ كَمَالِها، حيثُ تَوحَّدَتِ الحَضرَاتُ السَّماوِيَّةُ في حَضرَةٍ ذَاتيَّةٍ وَاحدَةٍ لِتُبرِزَ كُلَّ أبعادِ العَقيدةِ بِوضُوحٍ ونَقاءٍ تَامٍّ، فَظهرَتِ الأفعالُ في سَمَاءِ الأسمَاءِ وظهرَتِ الأوصافُ في سَمَاءِ الصِّفاتِ، ومِنْ هذَا المَقامِ قالَ سَيِّدُنا مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ : كُنْ أبَا ذَرٍّ فَكانَ، ثُمَّ ظهرَتِ التَّجلِّياتُ الذاتِيَّةُ المُتوَحدةُ في أبهَى حُلَلِها، وجاءَ المَدَدُ الإلَهيُّ لِيوَحِّدَ التَّشرِيعَ مَعَ التَّحقِيقِ، ويَمنَحَ الاتِّزَانَ لِلديَانةِ السَّماوِيةِ الإسلامِيَّةِ، فَظهرَ في هذِه الحَضرةِ مَالَمْ يَظهَرْ مِنْ قَبلُ .

قالَ اللهُ تعَالى : ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيْكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ) .

    قولُه تعَالى : ( قَاتِلوهُم فِعلٌ وهوَ تَشريعٌ مِنْ حَضرةِ الأفعالِ ) .

    قولُه تعَالى : ( يُعذِبهُم صِفةُ العذابِ التِي سَيَتصِفونَ بها انتِقالاً إلى حَضرةِ الصِّفةِ ) .

    قولُه تعَالى : ( اللهُ لَفظةُ الجَلالةِ الدَّالةُ على الذاتِ التِي وَحَّدَتِ الحَضرتَينِ السَّابِقتَينِ ) .

فَكانَ أمرُ الفعلِ مِنها، وتَجلِّي الوَصفِ مِنها وهيَ وَاحدةٌ .

قولُه تعَالى : بِأيدِيكم عَودةٌ لِتوحِيدِ الحَضرَاتِ الثلَاثَةِ السَّابِقةِ في تَوحِيدِ النِّيَابةِ والخِلافةِ عَنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فَبِأيدِيكم يَقومُونَ بِفعلِ القَتلِ، وبِأيدِيكم أُعذِّبُ وأُقِيمُ هذَا الوصفِ في العدوِ، وأَيدِيكم هيَ مُلكٌ ذَاتيٌّ لِذاتِي الوَاحدَةِ .

قولُه تعَالى : ( وَمَا قَتَلْتُمُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ )  .

قولُه تعَالى : مَا قَتَلتُموهُم نَفِيُ الفعلِ عَنَّا مَعَ إدرَاكِنا، فَالمُسلمونَ قَاتلوا في المَعرَكةِ فَشهِدُوا فِعلَهم في القَتلِ، فَنَفَاه اللهُ عنهُم في قولِه : ومَاقَتَلتُموهُم، وجاءَ بِلَكِنِ الاستِدراكُ، ثُمَّ أثبَتَ ذاتَهُ بِلفظِ الجَلالةِ الله، ثُمَّ أعادَ فِعلَ القَتلِ مَعَ نِسبَتِه إليهِ أنَّهُ فَعلَه .

وجاءَ بِاللفظةِ قَتَلَ في حَضرةِ أفعالِهم مَجموعَةً ( قَتَلتُم )، وجاءَ بِاللفظَةِ قَتَلَ في حَضرةِ أفعالِهِ مُفردَةً ( قَتَلَ ) .

فَكانَ الفعلُ صُورةً لَهم وحَقيقةً لَه، فَالكثرةُ صُورةُ الأفعالِ والوَحدَةُ حقيقةُ الفِعلِ، وهذَا وَجهٌ تَوحِيديٌّ بَينَ كَثرةٍ ووَحدَةٍ .

قولُه تعَالى : ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ) .

الآيةُ تَحملُ وَجهَاً تَوحِيديَّاً آخرَ بَينَ وَحدَةٍ وَوَحدَةٍ، فَالرَّامِي هوَ وَاحدٌ وهوَ صُورةُ الفعلِ في حَضرةِ الأفعالِ، إلَّا أنَّ الرَّامِيَ حَقيقةً هوَ اللهُ تعَالى، ومَا أجملَ هذَا التَّوحِيدَ ! فَحقيقةُ الفعلِ أنَّه تَجلِّي ذَاتٍ مَوصوفةٍ بِصفةٍ أعطَت هذَا الفِعلَ، وحَقيقةُ الصِّفةِ ذَاتٌ مُتَّصِفةٌ بِها، وحَقيقةُ الذاتِ وُجودُ مُتَّصِفٍ فَاعِلٍ .

وهذَا التَّوحِيدُ هوَ أرقَى مَا ظهرَ لَنا في الديَاناتِ السَّماوِيَّةِ عَبرَ العُصورِ .

وَانظُرْ سُنَّةَ اللهِ تعَالى في تَعَلُّمِنَا عَقيدَتِنا حَيثُ فَصَّلَ لَنا كُلَّ الحَضراتِ بِجُملةِ آياتٍ وَبَيِّناتٍ خَاصَّةٍ بِها، ثُمَّ جَمعَها في حَضرةٍ وَاحدةٍ، وأطلَعَنَا مِنْ خِلالِها على صُورةِ وسُورةِ هذَا الجَمعِ، فَعَرَفْنَا التَّفصِيلَ والإجمَالَ في أجملِ مَقالٍ، ومِنْ هذَا الارتِقاءِ والتَّوَحُدِ وَصَلَتِ العَقيدةُ الإسلامِيَّةُ لِذُروَتِها، وَلَمَّا وَصَلَتِ الذُّروَةَ ثَبَتَت فَكانَت رَاسِخةً ثابتةً، وَصَحَّت أنْ تكونَ عَقيدةً عَالَميَّةً صَالِحةً لِجميعِ أفرَادِ الجِنسِ البَشريِّ .

 


( من كتاب علم الإنتربُولوجيَا للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب  ) .


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى