الإدْرَاكُ الرُّوحِيُّ
الرُّوحُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الرُّوحِ إنَّمَا هِيَ مَظْهَرٌ أعْظَمِيٌّ لِصِفَةِ الْحَيَاةِ الْمَوْهُوبَةِ مِنَ الْحَقِّ خَالِقِ الأرْوَاحِ وَهَذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ الشَّرْطُ الْلَّازِمُ الَّذِيْ لَا غِنَى عَنْهُ لِبَاقِي أوْصَافِ الْكَائِنَاتِ ، فَلَو نَظَرْنَا إلَى صِفَةِ الْبَصَرِ فِي الْكَائِنِ الْحَيِّ أوْ صِفَةِ السَّمْعِ فَإنَّنَا لَا نَسْتَطِيْعُ أنْ نُثْبِتَهَا لِمَيِّتٍ فَمَنْ لَا يَتَّصِفُ بِالْحَيَاةِ لَا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَوصُوفَاً بِأيِّ إدْرَاكٍ أو فَاعِلِيَّةٍ بَلْ يُوصَفُ بِكُلِّ مَا يُنَاقِضُ الإدْرَاكَ وَالفَاعِلِيَّةَ .
إذَاً : ارْتِبَاطُ الإدْرَاكِ وَالفَاعِلِيَّةِ بِالْحَيَاةِ إنَّمَا هُوَ ارتِبَاطٌ ذَاتِيٌّ ، هَذَا مَا يُمكِنُ أنْ يَسْتَشِفَّهُ العَقْلُ ، أمَّا عِندَ أهْلِ الرُّوحِ فَإنَّ الإدْرَاكَ وَالفَاعِلِيَّةَ إنَّمَا هُمَا وَصْفٌ وَاحِدٌ لِتَوَهُّجِ تِلكَ الرُّوحِ ، فَفِيْ عِلْمِ الرُّوحِ تَتَوَهَّجُ الرُّوحُ إدْرَاكَاً وَفَاعِلِيَّةً ، وَتَصنِيْفُ الألْفَاظِ بِهَذَا الشَّكلِ الَّذِي أكتُبُهُ هُنَا حَيثُ أذكُرُ الرُّوحَ وَالْحَيَاةَ وَالتَّوَهُّجَ وَالإدْرَاكَ وَالْفَاعِلِيَّةَ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الشَّرْحِ الْعَقلِيِّ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الوُجُودِ التَّحْقِيْقِيِّ لِلْحَقِيْقَةِ الْوَاقِعَةِ ، فَإنَّ الوُجُودَ التَّحْقِيْقِيَّ لِلْحَقِيْقَةِ الْوَاقِعَةِ هُوَ مَاتَعْنِيْهِ كَلِمَةُ رُوحٍ فَقَطْ ، وَمَا تِلْكَ الأوْصَافُ إلَّا وُجُودٌ وَاحِدٌ يَظْهَرُ لَنَا عِنْدَ تَوَهُّجِهَا الذَّاتِيِّ ، فَالرُّوحُ جَوهَرٌ حَيٌّ بَسِيْطٌ فَرْدٌ ، وَكُلُّ مَا نُفَصِّلُهُ فِي خَصَائِصِهَا إنَّمَا هُوَ مِنَ النِّسَبِ والاعْتِبَارَاتِ الَّتِيْ نَنْظُرُ مِنْ خِلَالِهَا إلَى هَذِهِ الرُّوحِ ، فَمِنْ حَيْثُ مَظْهَرِيَّتِهَا نَقُولُ حَيَاتَهَا ، وَمِنْ حَيِثُ الْعِلْمِ نَقُولُ إدْرَاكَهَا ، وَمِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةِ نَقُولُ فَاعِلِيَّتَهَا … ، وَبِشَكْلٍ عَامٍّ لَا تَكُونُ أيُّ نِسْبَةٍ وَلَا أيُّ وَصْفٍ إلَّا بِشَرْطِ صِفَةِ الْحَيَاةِ .
وَلِذَلِكَ كَانَ لَاُبدَّ فِي جَمِيْعِ الْعَقَائِدِ الَّتِيْ تَشْرَحُ اسْتِمْرَارَ وَظَائِفِ الرُّوحِ وَمُمَارَسَاتِهَا بَعْدَ مَوتِ الكَائِنِ أنْ تُوَضِّحَ أنَّ لِلرُّوحِ حَيَاةً مِنْ شَكْلٍ آخَرَ بَعِيدٍ عَنِ الْجَسَدِ الْمَادِّيِّ لِأنَّ الْعَقْلَ يَرَى زَوَالَ الْحَيَاةِ مِنَ الْجَسَدِ مَوْتَاً فَاحْتَاجَ بِذَلِكَ أنْ يَتَعَرَّفَ عَلَى إمْكَانِيَّةِ اسْتِمْرَارِ حَيَاةِ الرُّوحِ بِلَا ذَلِكَ الْجَسَدِ ، وَهُنَا تَمَسَّكَتِ الرُّوحُ بِلَوْنٍ مِنْ ألْوَانِ ذَكَائِهَا الرُّوحِيِّ الَّذِيْ ارْتَبَطَ بِوُجُودِهَا بَعِيْدَاً عَنْ جَسَدِهَا الْمَادِّيِّ فَخَاطَبَ الْحَقُّ بِالذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ الْعَقْلِيِّ ذَاتيةَ الشَخصِ الْمَحْجُوبِ بِأدِلَّةِ وُجُودِ هَذَا الذَّكَاءِ في جَسَدٍ مَادِّيٍّ وذلك بِأدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فِيْ الدَّيَانَاتِ السَّمَاوِيَّةِ ، فَمِنَ الْعُقُولِ مَنِ احْتَجَبَتْ بِأنْفُسِهَا فَرَفَضَتْ حَيَاةَ الرُّوحِ الْمُجَرَّدَةِ فَخَانَتِ الذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ وَاسْتَبْدَلَتْهُ بِالذَّكَاءِ الْعَقْلِيِّ وَالَّذِيْ هُوَ فِي الْحَقِيْقَةِ لَيْسَ ذَكَاءً عَقْلِيَّاً بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ رَوَابِطَ تَرَاكُمِيَّةٍ بَيْنَ التَّصَوُّرَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ الَّتِيْ أُتِيْحَ لِلْعَقْلِ التَّعَرُّفَ عَلَيْهَا مُنْذُ وِلَادَتِهِ فِي الْجَسَدِ الْمَادِّيِّ ، فَهُوَ لَا يعيْ إلَّا مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ التَّرَابُطَاتِ وَالَّتِيْ يَعْتَبِرُهَا ذَكَاءَهُ الْحَاكِمَ، فِيْ حِيْنَ أنَّ الْعُقُولَ النَّقِيَّةَ الَّتِيْ لَمْ تُحْجَبْ عَنِ الرُّوحِ وَالإدْرَاكِ الرُّوحِيِّ الْفَاعِلِ أقَرَّتْ بِقُوَّةِ حَاكِمِيَّةِ الرُّوحِ عَلَيْهَا وَأنَّ الرُّوحَ إنَّمَا هِيَ طَوْرٌ فَوْقَهَا وَأنَّ الْعَقْلَ وَالْجَسَدَ الْمَادِّيَّ إنَّمَا هُوَ مُسْتَمَّدٌ مِنْ تَوَهُّجِهَا فَسَلَّمَ لَهَا مَا أظْهَرَتْ لَهُ مِنْ قُدْرَتِهَا عَلَى الاسْتِمْرَارِ بِحَيَاةٍ ذَاتِ عَنَاصِرَ تَخْتَلِفُ عَنْ عَنَاصِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فَسَلَّمَتْ تِلْكَ الْعُقُولُ لِلْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبِلَتْ أنْ يَكُونَ الذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ هُوَ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا وَلَمْ تَنْخَدِعْ بِالْكَمِّ التَّرَاكُمِيِّ لِلرَّوَابِطِ الَّتِيْ عَاشَهَا الْعَقْلُ وَتَعَرَّفَ عَلَيْهَا مُنْذُ وِلَادَتِهِ بَيْنَ التَّصَوُّرَاتِ وَالْمَعْقُولَاِت ، وَلَمَّا كَانَ الْعَقْلُ لَا يَعِي تِلْكَ الْحَيَاةَ الرُّوحِيَّةَ وَالذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ الْحَاكِمَ لَهُ وَالْمُدِيْرَ لِوَظَائِفِهِ اضْطَرَبَ وَطَلَبَ مَايُعْطِيْهِ الاسْتِقْرَارَ فِيْ أدَاءِ وَظَائِفِهِ فَإذَا بِالذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ يُصِيْغُ لَهُ اعْتِبَارَاً عَقْلِيَّاً يُسَمَّى الإيْمَانَ وَأشَارَ إلَيْهِ أنَّ هَذَا الإيْمَانَ خَارِجٌ عَنْ مُدْرَكَاتِ الْعَقْلِ وَلَا يُمْكِنُ أنْ يُفَسِّرَهُ الْعِلْمُ وَالتَّحْلِيْلُ وَالتَّرْكِيْبُ وَالتَّرْجِيْحُ الْعَقْلِيُّ وَأنَّ هَذَا الإيْمَانَ اعْتِبَارِيٌّ فِي الْعَقْلِ وَلَكِنَّهُ حَقِيْقِيٌّ فِي الرُّوحِ وَأكَّدَتْ نُصُوصُ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ لِلْعَقْلِ أنَّهُ إذَا ارْتَقَى عَنْ حُجُبِهِ إلَى ذَكَاءِ الرُّوحِ الَّذِيْ يَحْكُمُهُ فَإنّهُ سَيَجِدُ هَذَا الإيْمَانَ الاعْتِبَارِيَّ فِي الْعَقْلِ يَقِيْنَاً مُتَحَقِّقَاً فِي الرُّوحِ ، وَبِذَلِكَ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ وَضَعَ الْعَقْلُ الإيْمَانَ فِي خَانَةٍ عَقْلِيَّةٍ سَمَّاهَا لَهُ الذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ ( وُجُودٌ لَايُفَسِّرُهُ الْعِلْمُ ) وَصَارَ الذَّكَاءُ الْعَقْلِيُّ وَكُلُّ ذَكَاءٍ دُونَ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ فِيْ الكَيَانِ الْبَشَرِيِّ وَكُلُّ مَا يُعْجَزُ عَنْ إدْرَاكِهِ فِي هَذَا الوُجُودِ الْكَوْنِيِّ ضِمْنَ خَانَةِ ( أؤمِنُ بِوُجُودِهِ وَلَا أُدرِكُهُ ، هُوَ وُجُودٌ لَمْ يُفَسِّرْهُ عِلْمِي ) وَلَعَلَّ مِنْ أجْمَلِ آيَاتِ الْحَقِّ هُنَا أنَّ الْعَقْلَ وَمُفْرَزَهُ الْحَاكِمَ عَلَيْهِ وَالْحَاكِمَ عَلَى غَيْرِهِ الَّذِيْ هُوَ الذَّكَاءُ الْعَقْلِيُّ إنَّمَا هو مَحكُومٌ لسلطةِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ الَّذِيْ هُوَ أعْلَى مِنهُ ، وَبِمِثْلِ تِلْكَ الإدْرَاكَاتِ الْفَاعِلَةِ لِلرُّوحِ تَمَيّزَ أهْلُ الرُّوحِ عَنْ أهَلِ الْعَقْلِ وَارْتَقَى أهْلُ الرُّوحِ بِالذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ عَلَى كُلِّ عُرُوشِ الذَّكَاءِ الَّتِيْ نَزَلَتْ عَنِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ وَعَلَى رَأسِهَا الذَّكُاءُ الْعَقْلِيُّ وَدُونَهُ الذَّكَاءُ النَّفْسِيُّ .
( نقلاً عن كتاب علم الذكاء الروحي للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .