هل يرى الإنسان كلمة إنسان آخر – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

هَل يَرَى الإنسَانُ كَلمَةَ إنسَانٍ آخرَ ؟

 

نَأتِي مِنْ ” علمِ النَّبويَّاتِ “ بدليلٍ قويٍّ على رُؤيةِ إنسَانٍ لِكلمَةِ إنسَانٍ آخرَ، والدَّليلُ هوَ حَادثةٌ بينَ نَبيَّينِ، إذْ صحَّ الفعلُ مِنَ الرَّائِي ومِنَ المُتكلِّمِ فَثبُتَتْ القضيةُ ثُبوتاً حَتميَّاً، أمَّا النَّبِيانِ فَهما سَيِّدُنا هَارونُ عليهِ السَّلامُ وسَيِّدُنا مُوسَى عليهِ السَّلامُ .. في سُورةِ طَه القَرارُ 94 يقولُ تعَالى :

{ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } طه94

فسيِّدُنا مُوسَى عليهِ السَّلامُ مَضَى لِيُناجِي رَبَّه على جَبلِ الطُّورِ فتَبِعَه السَّامريُّ، وشاهدَ سَيِّدُنا مُوسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُحدِّثُ كَائِناً، حَيثُما مشَى نَبتَ العُشبُ في مَدَاسِه، وحَيثُما جلسَ اخْضَرَّ مَجلِسُه ونَبتَ نَباتُه، فعَرَفَه السَّامريُّ على أنَّه سَيِّدُنا جِبريلُ عليه السَّلامُ، لأنَّ وَصفاً مِنْ أوصَافه عليهِ السَّلامُ أنَّه سَيِّدُ الحَياةِ في الكَونِ، فحَيثُما كانَ مَدَاسُه تَحيَا الأرضُ بوجُودِه، يَدُوسُ قَلبَ السَّالِكِ فَيَحيَا قَلبُه بنورِ اللهِ تعَالى .

لِذلكَ العَارِفينَ باللهِ تعَالى إذا تَوَجَّهت عليهمُ الرَّقِيقةُ الجِبرِيليَّةُ وَقعَ لهمُ التَّصرِيفُ في الكَونِ مِنْ صفةِ الحياةِ في هذَا الكائِنِ الفَائقِ الجَمالِ سَيِّدِنا جِبرِيلَ عليه كُلُّ الصَّلاةِ والسَّلامِ، فَانتَشَلَ السَّامِريُّ حَفنةً مِنْ تُرابِ مَدَاسِ سَيِّدِ الحياةِ جِبرِيلَ عليهِ السَّلامُ، ثُمَّ صنعَ مِنْ حُليِّي وذَهَبِ بَني إسرائيلَ بَقرةً ذَهبيَّةً، ثُمَّ ضَربَها بِقبضةٍ مِنْ ذَاك التُّرابِ الحيِّ بِأثَرِ سيِّدِنا جِبرِيلَ عليهِ السَّلامُ، فإذا بِالبقرةِ الذهبيَّةِ تَؤُولُ إلى عِجْلٍ تَسرِي في أوصَالِه الحياةُ لَه مَسعىً وخُوارٌ، ومَا أنْ شَهِدَت بَنو إسرائيلَ هذَا العِجلَ المَصنُوعَ مِنَ الذَّهبِ والحِليِّ، وتَسري في أوصَالِه الحياةُ حتَّى سجَدُوا لَه وآثَرُوا عِبادتَه، وكانَ حِينَذَاك وعندَ حدُوثِ الحَادثةِ سَيِّدُنا هَارونُ عليه السَّلامُ مُستَخلَفاً عَنْ سَيّدِنا مُوسى عليه السَّلامُ على بنِي إسرائيلَ بِخِلافةٍ مُقيَّدةٍ .

وحينَ عادَ سيِّدُنا مُوسى إلى بنِي إسرائيلَ وَجَدَهم يَعبُدون العِجْلَ، فتَوَجَّه إلى مَنِ استَخْلفَه عليهِم، فأخذَ سيِّدُنا مُوسى عليه السَّلامُ بِلحيَةِ أخِيه هَارونَ عليهِ السَّلامُ مُعنِّفاً إيَّاهُ لِتقصِيرِه في مَنعِ بنِي إسرائيلَ مِنَ الشِّركِ وعِبادةِ غَيرِ الحقِّ، فأجَابَه أخُوه هارونُ عليه السَّلامُ بـِ { يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } طه94 .

لأنَّه لو مَنَعَهم هَارونُ عليه السَّلامُ عَنْ تِلكَ العِبادةِ في تِلكَ اللحظَةِ لَانْقَسَمَتْ بنُو إسرائيلَ فِرقتَينِ، فِرقةٌ مُشرِكةٌ وأُخرَى مُؤمِنةٌ، ولَتَنازعَت فِيمَا بينَها، ولَسُفِكَت الدِّماءُ، ووقَعُوا صَرعَى الفِتنةِ، فَالأمَانةُ التِي حَملَها سَيِّدُنا هَارونُ عليه السَّلامُ هي حِفظُ الجَماعةِ لا تَشتِيْتِها وتَمزِيقِها، فَالفُرقةُ تَدميرٌ لِلمجتمعِ، وإنَّما القُوَّة لِلمجتمعِ الوَاحِد المُتماسِك، فَمَا قَصَدَ سَيِّدُنا هَارونُ عليهِ السَّلامُ بِكلامِه : ( وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) ؟

أيْ أنَّكَ يَا أخِي مُوسى لَمْ تَرَ رُؤيةً بَصريَّةً قَولي لأنَّنِي نبِيٌّ، وكَلمةُ النَّبيِّ تَتحقَّقُ وتَتجسَّدُ حَقيقةً ماديةً، فَخِطابُه هنا كانَ بلغةِ أنبيَاءَ ( تَرْقُبْ قَوْلِي ) ، حيثُ أنَّ كَلمةَ تَرْقُبْ: مِنْ اسمِ اللهِ الرَّقِيبِ .

لِذا كانَ رُؤيةُ القولِ بالبَصرِ مِنْ اسمِ اللهِ ” الرَّقيبِ “، وليسَ مِنْ اسمِ اللهِ البَصيرِ .

كَلمةُ مُوسى هي عَينُها تَجسيدٌ لِلقولِ في وَاقِعٍ مَاديٍّ مَحسُوسٍ، جاءَ في كِتابِ الحَقِّ تعَالى :

{ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي {25} وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي {26} وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِّسَانِي {27} يَفْقَهُوا قَوْلِي {28} وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي {29} هَارُونَ أَخِي {30} اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي {31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي {32} كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً {33} وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً {34} إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً {35} قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى {36}

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى؛ و قد : حرفُ تَحقيقٍ .

سُؤْلَ : طلبُ سيِّدِنا مُوسى عليه السَّلامُ، وهذَا الطَّلبُ مُؤلَّفٌ مِنْ ألفاظٍ، وهذِه الألفاظُ هي كَلماتٌ، لِذَا كانَتِ الإجَابةُ الإلَهيَّةُ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ؛ أيْ (( أوتِيتَ طَلبَكَ المُؤلفَ مِنْ تِلكَ الألفاظِ والكَلماتِ )) وكَأنَّهُ يقولُ لَه : ( قُلتُ لِكلماتِكَ كُونِي فَكانَتْ ) ، فَإذا نَظرنَا إلى وَاقعِ سَيِّدِنا مُوسى في زَمانِه بعدَ سُؤالِه لِربِّهِ نَجدُ أنَّه: شَرحَ اللهُ له صَدرَهُ، ويَسَّرَ له أمرَه، ومَنَحه جَوامِعَ الكَلِمِ وفَصاحةَ اللسانِ ونَضَاحةَ البَيَانِ، فبَاتَ مَنطقُه مَفهُوماً وَاضِحاً جَليَّاً، وجعلَ سَيِّدَنا هَارونَ عليه السَّلامُ مُعِيناً له مِنْ أهلِهِ، فَكانَ سَنداً له وقوَّةً، ودَعمَاً له ونُصرَةً، ومُشارِكاً إيَّاهُ في النُّبوَّةِ، وذَكَرُوا اللهَ كَثيرَاً… وسَبَّحوهُ كَثِيراً، فكانَ وَاقعُه مُطابِقاً تَمامَاً لِسُؤلِهِ، لألفَاظِه، لِكلمَاتِه، لِقولِه عليهِ السَّلامُ، وهذَا مَا نَجدُه كَثيراً في عُلومِ النَّبويَّاتِ ألَا وهوَ (( مُطابَقةُ الوَاقعِ لأقوَالِ الأنبِيَاءِ )) عليهِم جَميعَاً صَلاةُ الحقِّ ورِضوَانُه وسَلامُه .

ومِثالُه سَيِّدُنا سُليمَانُ عليه أتمُّ الصَّلاةِ والسَّلامِ إذْ كانَ يقولُ أمرَه، فَيَرى أمرَه مَفعُولاً، إذْ أمرَ بِعرشِ بَلقِيسَ مَلكةِ سَبأٍ أنْ يكونَ عندَه حَاضراً، وقبلَ أنْ يَرتَدَّ له طَرْفُه وَجَدَه عندَه حَاضِراً، فَكَلمتُه بِالعَينِ مَشهُودةٌ وبالأنَاملِ مَلمُوسةٌ مَحسُوسةٌ .

هَكذَا نكونُ قد دَرَسْنا عِلمَ رُؤيةِ القَولِ بالبصرِ في الإلَهيَّاتِ وفي السَّمعِيَّاتِ وفي النَّبوِيَّاتِ، فبَعْدَ اليَقينِ بِهذَا العلمِ بِدليلِ كتابِ الحَقِّ والسُنَّةِ النَّبويَّةِ الشَّرِيفَةِ، وأنَّ المَلاكَ يَرَى كَلمةَ الإنسانِ، والإنسانُ يَرَى كَلمةَ أخِيْه الإنسانِ، نَنتَقلُ إلى تَطبِيقاتِ هذَا العِلمِ مِمَّا عَلَّمَنَا إيَّاه الحَقُّ في كَلمتِه الكَريمَةِ، ومَا نَهجَه النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والآلُ في مَسيرتِه العَظيمةِ .

 


( من كتاب علم رؤية القول بالبصر للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب  ) .


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى