مُقَدِّمَةُ رِسَالَةِ قَوَانِيْن الإدْرَاكِ الْفَعَّالِ فِيْ عِلْمِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيّ – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

مُقَدِّمَةُ رِسَالَةِ قَوَانِيْن الإدْرَاكِ الْفَعَّالِ فِيْ عِلْمِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيّ

لَقَدْ ذَكرْتُ فِي رِسَالَةٍ سَابِقَةٍ أنَّ الرُّوحَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الرُّوحِ إنَّمَا هِيَ مَظْهَرٌ أعْظَمِيٌّ لِصِفَةِ الْحَيَاةِ الْمَوْهُوبَةِ مِنَ الْحَقِّ خَالِقِ الْأرْوَاحِ .

وَأنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ هِيَ الشَّرْطُ الْلَّازِمُ الَّذِيْ لَاغِنَى عَنْهُ لِبَاقِيْ أوْصَافِ الْكَائِنَاتِ .

وَأنَّنَا لَوْ نَظَرْنَا إلَى صِفَةِ الشَّمِّ فِي الْكَائِنِ الْحَيِّ أوْ صِفَةِ اللَّمْسِ فَإنَّنَا لَا نَسْتَطِيْعُ أنْ نُثْبِتَهَا لمَيِّتٍ فَمَنْ لَا يَتَّصِفُ بِالْحَيَاةِ لَا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَوْصُوفَاً بِأيِّ إدْرَاكٍ أو فَاعِلِيَّةٍ .

وَاسْتَنْتَجْنَا الْحَقِيْقَةَ الدَّامِغَةَ بِأنَّ ارْتِبَاطَ الْإدْرَاكِ وَالْفَاعِلِيَّةِ بِالْحَيَاةِ إنَّمَا هُوَ ارْتِبَاطٌ ذَاتِيٌّ .

وَأنّ هَذَا الْارْتِبَاطَ وَصْفٌ وَاحِدٌ لِتَوَهُّجِ تِلْكَ الرُّوحِ .

فَهِيَ تَتَوَهَّجُ إدْرَاكَاً وَفَاعِلِيَّةً .

وَأنَّ الْأوْصَافَ مَاهِيَ  إلَّا ذَاتُ وُجُودٍ وَاحِدٍ يَظْهَرُ لَنَا عِنْدَ تَوَهُّجِهَا الذَّاتِيِّ .

وَقُلْنَا إنَّ الرُّوحَ جَوْهَرٌ فَرْدٌ ، وَكُلُّ مَا نُفَصِّلُهُ فِي خَصَائِصِهَا إنَّمَا هُوَ مِنَ النِّسَبِ وَالْاعْتِبَارَاتِ الَّتِيْ نَنْظُرُ مِنْ خِلَالِهَا إلَى هَذِهِ الرُّوحِ، فَمِنْ حَيْثُ مَظْهَرِيَّتِهَا نَقُولُ حَيَاتَهَا ، وَمِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ نَقُولُ إدْرَاكَهَا ، وَمِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةِ نَقُولُ فَاعِلِيَّتَهَا … ، وَبِشكْلٍ عَامٍّ لَا تَكُونُ أيُّ نِسْبَةٍ وَلَا أيُّ وَصْفٍ إلَّا بِشَرْطِ صِفَةِ الْحَيَاةِ .

وَإنَّ الْعُقُولَ النَّقِيَّةَ الَّتِيْ لَمْ تُحْجَبْ عَنِ الرُّوحِ وَالْإدْرَاكِ الرُّوحِيِّ الْفَاعِلِ أقَرَّتْ بِقُوَّةِ حَاكِميَّةِ الرُّوحِ عَلَيْهَا ، وَإنَّ الرُّوحَ إنَّمَا هِيَ طَوْرٌ فَوْقَهَا ، وَإنَّ الْعَقْلَ وَالْجَسَدَ الْمَادِّيَّ إنَّمَا هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ تَوَهُّجِهَا فَسَلَّمَ لَهَا مَا أظْهَرَتْ لَهُ مِنْ قُدْرَتِهَا عَلَى الْاسْتِمْرَارِ بِحَيَاةٍ ذَاتِ عَنَاصِرَ تَخْتَلِفُ عَنْ عَنَاصِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فَسَلَّمَتْ تِلْكَ الْعُقُولُ لِلْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ مَابَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبِلَتْ أنْ يَكُونَ الذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ هُوَ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا وَلَمْ تَنْخَدِعْ بِالْكَمِّ التَّرَاكُمِيِّ لِلرَّوَابِطِ الَّتِيْ عَاشَهَا الْعَقْلُ وَتَعَرَّفَ عَلَيْهَا مُنْذُ وِلَادَتِهِ بَيْنَ التَّصَوُّرَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ ، وَلَمَّا كَانَ الْعَقْلُ لَا يَعي تِلْكَ الْحَيَاةَ الرُّوحِيَّةَ وَالذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ الْحَاكِمَ لَهُ وَالْمُدِيْرَ لِوَظَائِفِه اضْطَّرَبَ وَطَلَبَ مَايُعْطِيْهِ الْاسْتِقْرَارَ فِي أدَاءِ وَظَائِفِهِ فَإذا بِالذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ يُصِيْغُ لَهْ اعْتِبَارَاً عَقْلِيَّاً يُسَمَّى الْإيْمَانَ وَأشَارَ إلَيْهِ أنَّ هَذَا الْإيْمَانَ خَارِجٌ عَنْ مُدْرَكَاتِ الْعَقْلِ وَلَا يُمْكِنُ أنْ يُفَسِّرَهُ الْعِلْمُ وَالتَّحْلِيْلُ وَالتَّرْكِيْبُ وَالتَّرْجِيْحُ الْعَقْلِيُّ ، وَإنَّ هَذَا الْإيْمَانَ اعْتِبَارِيٌّ فِي الْعَقْلِ وَلَكِنَّهُ حَقِيْقِيٌّ فِي الرُّوحِ ، وَأكَّدَتْ نُصُوصُ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ لِلْعَقْلِ أنَّهُ إذَا ارْتَقَى عَنْ حُجُبِهِ إلَى ذَكَاءِ الرُّوحِ الَّذِي يَحْكُمُهُ فَإنّهُ سَيَجِدُ هَذَا الْإيْمَانَ الْاعْتِبَارِيَّ فِي الْعَقْلِ يَقِيْنَاً مُتَحَقِّقَاً فِي الرُّوحِ ، وَبِذَلِكِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ وَضَعَ الْعَقْلُ الْإيْمَانَ فِي خَانَةٍ عَقْلِيَّةٍ سَمَّاهَا لَهُ الذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ ( وُجُودٌ لَا يُفَسِّرُهُ الْعِلْمُ ) وَصَارَ الذَّكَاءُ الْعَقْلِيُّ وَكُلُّ ذَكَاءٍ دُونَ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ فِي الْكيَانِ الْبَشَرِيِّ وَ كُلَّ مَا يَعْجَزُ عَنْ إدْرَاكِهِ فِي هَذَا الْوُجُودِ الْكَوْنِيِّ ضِمْنَ خَانَةِ ( أُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ وَلَا أُدْرِكُهُ ، هُوَ وُجُودٌ لَمْ يُفَسِّرْهُ عِلْمِيْ ) وَلَعَلَّ مِنْ أجْمَلِ آيَاتِ الْحَقِّ هُنَا أنَّ الْعَقْلَ وَمُفْرَزَهُ الَحَاكِمَ عَلَيْهِ وَالْحَاكِمَ عَلَى غَيْرِهِ الَّذِيْ هُوَ الذَّكَاءُ الْعَقْلِيُّ إنَّمَا انْحَكَمَ هُنَا لِلذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ الَّذِيْ هُوَ أعْلَى ، وَبِمِثْلِ تِلْكَ الْإدْرَاكَاتِ الْفَاعِلَةِ لِلرُّوحِ تَمَيَّزَ أهْلُ الرُّوحِ عَنْ أهْلِ الْعَقْلِ وَارْتَقَى أهْلُ الرُّوحِ بِالذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ عَلَى كُلِّ عُرُوشِ الذَّكَاءِ الَّتِيْ نَزَلَتْ عَنِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ وَعَلَى رَأسِهَا الذَّكَاءُ الْعَقْلِيُّ وَدُونَهُ الذَّكَاءُ النَّفْسِيُّ .


( نقلاً عن كتاب علم الذكاء الروحي للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى