مُقَدِّمَةٌ فِيْ تَعْرِيْفِ الْوَعْيِ الرُّوحِيِّ
كُنْتُ سَابِقَاً فِي رِسَالَةِ قَانُونِ الذَّاتِيَّةِ وَقَانُونِ الْقُدْسِيَّةِ فِي عِلْمِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ قَدْ عَرَّفتُ الْوَعْيَ فَقُلْتُ فِي تَعْرِيْفِ الْوَعْيِ أنَّ الْوَعْيَ فِي الْلُّغَةِ هُوَ الْفَهْمُ وَسَلَامَةُ الْإدْرَاكِ .
وَأنَّنَا لَانَفْهَمُ إلَّا بِفَاعِلِيَّةٍ ذَاتِيَّةٍ وَإلَّا لَمْ يَكُنِ الْإدْرَاكُ فَاعِلَاً لِيَقُومَ بِعَمَلِيَّةِ الْإدْرَاكِ .
وَشَرَحْتُ كَيْفَ أنَّ الْوَعْيَ هُوَ خَصِيْصَةٌ رُوحِيَّةٌ وَلَيْسَتْ نَفْسِيَّةً أوْ عَقْلِيَّةً .
وَكَيْفَ أنَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَعْيِ النَّفْسِيِّ وَالْوَعْيِ الْعَقْلِيِّ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ مَظْهَرٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْوَعْيِ لَا بِاعْتِبَارِ الْوَعْيِ الْأصْلِ الَّذِي هُوَ الْوَعْيُ الرُّوحِيُّ .
وَرَأيْنَا كَيْفَ أنَّ الْوَعْيَ الرُّوحِيَّ هُوَ الْوَعْيُ الْأصْلُ .
وَأنَّ لَهُ مَظَاهِرَ خَاصَّةً بِمَكَانِ ظُهُورِهِ وَلَهُ أنْوَاعَاً :
فَظُهُورُهُ فِي عَالَمِ الْعَقْلِ يُظْهِرُ لَنَا نَوْعَاً خَاصَّاً فِي الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ نَقُولُ لَهُ بِمُجْمَلِهِ الْوَعْيَ الْعَقْلِيَّ ، وَكَذَا بِظُهُورِهِ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ فِي عَالَمِ النَّفْسِ نَقُولُ لَهُ الْوَعْيَ النَّفْسِيَّ ، وَفِي ظُهُورِهِ فِي الْكَوْنِ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ نَقُولُ عَنْهُ الْوَعْيَ الْكَوْنِيَّ ، وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الذَّاتِ فَإنَّ لَهُ نَوْعَاً خَاصَّاً مِنَ الذَّكاَءِ الرُّوحِيِّ نَقُولُ لَهُ الْوَعْيَ الذَّاتِيَّ ، وَهَكَذَا مَهْمَا تَعَدَّدَتْ مَظَاهِرُهُ تَتَعَدَّدُ نِسَبُهُ فَتَتَعَدَّدُ تَسْمِيَاتُ أنْوَاعِهِ.
وَهُنَا عِنْدَمَا أقُولُ الْوَعْيَ الرُّوحِيَّ إذَاً أقْصِدُ كُلَّ تِلْكَ الْأنْوَاعِ دُونَ تَمْيِيزٍ ، فَنَحْنُ هُنَا نَتَكلَّمُ فِي عَالَمِ الرُّوحِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ تِلْكَ النِّسَبِ وَعَوَالِمهَا .
فَالْوَعْيُ الرُّوحِيُّ : هُوَ مُجْمَلُ الْإدْرَاكَاتِ الْفَعَّالَةِ الَّتِيْ تَتَوَهَّجُ عَنِ الرُّوحِ .
وَيَكُونُ الذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ : هُوَ حَرَكَةُ تِلْكَ الْإدْرَاكَاتِ الْفَعَّالَةِ فِيمَا بَيْنِهَا تَفْصِيْلَاً وَإجْمَالَاً .
وَهُنَا فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ نَحْتَاجُ لِأنْ نَعِيَ قَوَانِيْنَ خَاصَّةً مِنْ قَوَانِيْنِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ تِلْكَ الْقَوَانِيْنُ الْخَاصَّةُ بِالْوَعْيِ ؛ وَالَّتِي هِيَ الْقَوَانِيْنُ الْخَاصَّةُ بِالْإدْرَاكِ وَالْفَاعِلِيَّةِ الْمُشَكِّلَةِ لِلْوَعْيِ الرُّوحِيِّ وَالَّتِي لَايُمْكِنُ لِلْوَعْيِ الرُّوحِيِّ أنْ يَكُونَ ظَاهِرَاً بِهُوِّيَتِهِ مِنْ كَوْنِهِ وَعْيَاً إلَّا بِهَا ، وَهِيَ كَثِيْرَةٌ أجِدُ مِنَ الْمُفِيْدِ أنْ أكْتُبَ فِي رِسَالَتِيْ هَذِهِ عَنْ بَعْضِهَا مِثْلَ :
– قَانُونِ الإطْلَاقِ .
– قَانُونِ الْانْفِعَالِ .
– قَانُونِ الاسْتِغْرَاقِ .
وَلَعَلِّيْ هُنَا أبْدَأ فِي شَرْحِ بَعْضِ جَوَانِبِ قَانُونِ الْإطْلَاقِ فِي الْوَعْيِ :
قَانُونُ الإطْلَاقِ
قَانُونُ الإطْلَاقِ هُوَ قَانُونٌ هَامٌّ فِي الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ ، فَإنَّ الْإطْلَاقَ خَصِيْصَةٌ مِنْ خَصَائِصِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ عَلَى التَّفْصِيْلِ وَمَا يُشَكِّلُهُ مُجْمَلُ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ مِنْ وَعْيٍ ، وَهَذَا الْإطْلَاقُ يَتَمَثَّلُ بِاللَّامَحْدُودِيَّةِ لِفَاعِلِيَّةِ الْإدْرَاكِ ، فَإنَّ كُلَّ الْوَارِدَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الرُّوحِ مِنْ كُلِّ الْمُسْتَقْطَبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إنَّمَا هِيَ تَحْتَ سَطْوَةِ فَاعِلِيَّةِ الْإدْرَاكِ مَهْمَا تَكُنْ تِلْكَ الْوَارِدَاتِ ، وَمِنْ هُنَا قُلْنَا بِإطْلَاقِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ فِي وَعْيِهِ لِلأشْيَاءِ مَهْمَا تَكُنْ ، وَأنَّ هَذَا الْإطْلَاقَ هُوَ قَانُونٌ مِنْ قَوَانِيْنِ الْوَعْيِ لِأنَّهُ مَرْكُوزٌ فِي مَخْلُوقِيَّةِ الرُّوحِ وَلَانِهَائِيَّةِ الدَّفقِ الْحَيَاتِيِّ فِيْهَا ، فَلَا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ هُنَاكَ ذَكَاءٌ رُوحِيٌّ تَفْصِيْلِيٌّ ظَاهِرٌ بِمَظْهَرِ الْوَعْيِ الْإجْمَالِيِّ إلَّا ِبهَذَا الْقَانُونِ الْإطْلَاِقِيِّ الْحَاكِمِ ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ حَقِيْقَةُ الْفَاعِلِيَّةِ الْإدْرَاكِيَّةِ الَّتِي لَا تَكُفُّ عَنْ عَمَلِهَا مَادَامَتِ الرُّوحُ نَابِضَةً بالْحَيَاةِ حَتَّى وَلَوْ كَانَتِ الْوَارِدَاتُ الْمُسْتَقْدَمَةُ إلَى الرُّوحِ هِيَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ لِلرُّوحِ فَهْمُهُ بِمَا وَصَلَتْ إلَيْهِ عِنْدَ مُسْتَوَىً مُعَيَّنٍ مِنَ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ مِثْلَمَا نَجِدُ عِنْدَ الْأطْفَالِ فِي كُلِّ مَرَاحِلِ وَعْيِهِمْ لِهَذَا الْوُجُودِ ، فَإنَّ كُلَّ الْقَضَايَا الَّتِيْ تَرِدُ إلَى مَسَاحَةِ الْإدْرَاكِ لَدَيْهِمْ إنَّمَا تُمَارَسُ عَلَيْهَا فَاعِلِيَّةُ هَذَا الْإدْرَاكِ بِمُسْتَوَاهُ الرُّوحِيِّ الذَّكَائِيِّ الْأعْلَى وَبِمَا تَنَزَّلَ إلَيْهِ مِنْ عَوَالِمِ الذَّكَاءِ الْأدْنَى مِثْلَ الذَّكَاءِ الْعَقْلِيِّ وَالذَّكَاءِ النَّفْسِيِّ وَالذَّكَاءِ الْفِطْرِيِّ وَالذَّكَاءِ الصِّنَاعِيِّ وَالذَّكَاءِ الطَّبِيْعِيِّ …. إلخ .
وَهَذِهِ الْمُمَارَسَةُ لِلذَّكَاءِ الرَّوحِيِّ عِنْدَ الطِّفْلِ رُبَّمَا تَكُونُ أضْيَقَ وَعْيَاً مِنْ أنْ تَحْوِيْ الْقَضِيَّةَ الْكَوْنِيَّةَ الْوَارِدَةَ إلَيْهِ لِيَعِيَهَا وَمَعَ ذَلِكَ لَا َيَكُفُّ الْإدْرَاكُ عَنْ فَاعِلِيَّتِهِ فِي الْاسْتِمْرَارِ فِي رَبْطِ الْبَيَانَاتِ وَحَشْدِهَا لِإصَابَةِ الْحَقِيْقَةِ فِي وَعْيِهِ لِذَلِكَ الْأمْرِ .
لِذَلِكَ نَجِدُ هَؤلَاءِ الْأطْفَالَ قَدْ بَدَؤُوا فِعْلَاً بِوَعْيِ تِلْكَ الْقَضَايَا مَعَ اسْتِمْرَارِهِمْ بِالْحَيَاةِ ( أيْ بِاسْتِمْرَارِهِمْ بِتَوَهُّجِ الرُّوحِ بِالْحَيَاةِ الْوَاعِيَةِ الدَّرَّاكَةِ الْفَعَّالَةِ ) وَالْاسْتِمْرَارِ بِالْحَيَاةِ وَوُصُولِهِمْ إلَى وَعْيِ تِلْكَ الْقَضَايَا الَّتِي كَانَتْ أوْسَعَ مِنْ ذَكِائِهِمُ الرُّوحِيِّ ، يَعْنِيْ أنَّ مَزِيْدَاً مِنَ الْإدْرَاكِ وَالْفَاعِلِيَّةِ قَدْ تَمَّ مِمَّا وَسَّعَ الْوَعْيَ إلَى دَرَجَةِ أنَّهُ وَصلَ إلَى احْتِوَاءِ تِلْكَ الْقَضَايَا وَصَارَت تَحْتَ حِيْطَتِهِ .
وَمِنْ قَانُونِ الْإطْلَاِق أنَّ الذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ لَا يَتَوَقَّفُ عَنِ الْاسْتِمْرَارِ فِي الْإدْرَاكِ وَالْفَاعِلِيَّةِ وَتَوْسِيْعِ الْوَعْيِ فِي كُلِّ الْقَضَايَا مَهْمَا تَكُنْ عَلَى الرَّغْمِ مِنِ اسْتِحْكَامِهِ لَهَا فِي مَرْحَلَةٍ مَا ، لِذَلِكَ نَجِدُ أنَّ الْأشْخَاصَ الْمُتَقَدِّمِيْنَ بِالْعُمرِ رُبَّمَا يصِلُونَ فِي وَعْيِهِمْ إلَى حَالَةٍ مِنَ الْاسْتِسْخَافِ الرُّوحِيِّ لِلْقَضَايَا عَيْنِهَا وَذَلِكَ لِعَمْلَقَةِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ الْخَاصِّ بِتِلْكَ الْقَضَايَا وَبِالتَّالِي يَشْعُرُ أنَّ تِلْكَ الْمَوَاضِيْعَ إنَّمَا أصْبَحَتْ تَافِهَةً جِدَّاً وَصَغِيْرَةً أمَامَ عَمْلَقَةِ وَعْيِهِ ، فَإذَا بِهِ يَسْلُكُ سُلُوكَاً رُوحِيَّاً مِنَ الشُّعُورِ بِالْكَمَالِ فَيَنْعَكِسُ عَلَى السُّلُوكِ النَّفْسِيِّ لِيُتَرْجَمَ عَلَى شَكْلِ ابْتِسَامَةٍ وَضِحْكَةٍ سَاخِرَةٍ مِنْ قَضِيَّةٍ كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ مُعْضِلَةً فِيْ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ عُمرِهِ وَالَّتِي هِيَ الْآنَ لَاشَيْئَ يُذْكَرُ فِيْ سِنِّ الْأرْبَعِيْنَ مِنْ عُمرِهِ .
وَمَا كَانَ يُؤَكِّدُ الْوَعْيُ عَلَيْهِ فِي ذَكَائِهِ الرُّوحِيِّ أنَّهُ كَارِثَةٌ تَسْتَحِقُّ الْبُكَاءَ طَوِيْلَاً فَيَنْفَعِلُ الْكَيَانُ النَّفْسِيُّ عَنِ الْكَيَانِ الرُّوحِيِّ بِبُكَاءٍ تَجِدُهُ فِي سِنِّ الْأرْبَعِيْنَ سَبَبَاً لِلضَّحِكِ وَالشُّعُورِ بِالطَّرَافَةِ مِمَّا وَصَلَ إلَيْهِ وُسْعُ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ فِي الْقَضِيَّةِ بِعَيْنِهَا .
إذَاً فِي هَذَا الْقَانُونِ خَصِيْصَةُ وَعْيٍ ذَاتِيَّةٍ تُؤَكِّدُ أنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ إعْمَالُ فَاعِلِيَّةِ الْإدْرَاكِ فِي الشَّيْئِ الْمُدْرَكِ كُلَّمَا ارْتَقَى الذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ لِيَظْهَرَ بِمُسْتَوَى وَعْيٍ أنْضَجَ مِنْ ذِيْ قَبْل ، وَإطْلَاقُ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي ذَاتِيَّةِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ الَّذِيْ هُوَ تَوَهُّجُ حَيَاةِ الرُّوحِ إنَّمَا يُعْطِي الْاسْتِمْرَارَ فِي مُمَارَسَةِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ لِذَاتِهِ وَالْارْتِقَاءَ فِي مَظَاهِرِ ظُهُورِهِ الْوَاعِي دُونَ تَوَقُّفٍ وَهَذَا مَا نُسَمِّيْهِ فِي عِلْمِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ قَانُونَ الْإطْلَاقِ .
مُلَاحَظَةٌ هَامَّةٌ : هُنَا تَصْنِيْفٌ لِلذَّكَاءِ حَسَبَ الْجِهَةِ :
الذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ الْأعْلَى : هُوَ الذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ الْخَاصُّ بِالْوَعْيِ الرُّوحِيِّ الَّذِيْ يُصِيْغُ فِيْهِ الرُّوحُ كُلَّ ذَكَاءَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ .
الذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ الْوَسِيْطُ : هُوَ الذَّكَاءُ الْمُتَنَزَّلُ – مِنَ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ الْأعْلَى – إلَى بَاقِيْ حَضَرَاتِ الْكَائِنِ لِيَحْكُمَ الذَّكَاءَاتِ الْمُتَدَنِّيَةِ وُفْقَ الْوَعْيِ فِي الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ الْأعْلَى .
بَيْنَمَا الذَّكَاءُ الْأدْنَى : هُوَ الذَّكَاءُ الْمُتَنَزَّلُ إلَى حَضَرَاتِ الْكَائِنِ كُلِّهَا مِنْ حَضْرَةِ الذَّكَاءِ الْوَسِيْطِ إلَى الذَّكَاءِ فِي مُسْتَوَىً أدْنَى يَفْقِدُ مَعَهُ صِفَةَ الرُّوحِيَّةِ لِيُصْبِحَ ذَكَاءً خَاصَّاً بِالْحَضْرَةِ الَّتِيْ نَزَلَ إلَيْهَا .. فَهُوَ هُنَا لَيْسَ أكْثَرَ مِنِ ارْتِبَاطٍ مَعْلُومَاتِيٍّ مُتَشَابِكٍ وَاعٍ بَيْنَ كُلِّ الْمُدْرَكَاتِ ..
مِثْلَ : الذَّكَاءِ الْعَقْلِيِّ وَالذَّكَاءِ النَّفْسِيِّ وَالذَّكَاءِ الْعَاطِفِيِّ وَالذَّكَاءِ التَّرْبَوِيِّ .
قَانُونُ الْانْفِعَالِ
الذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ فِي كُلِّ مُسْتَوَيَاتِ ظُهُورِهِ الْوَاعِي إنَّمَا هُوَ مُمَارِسٌ لِقَانُونِ الْانْفِعَالِ بِقَدْرَ مَاهُوَ مُتَحَقِّقٌ بِقَانُونِ الْإطْلَاقِ .
وَهُنَا رُبَّمَا يَتدَاخَلُ الْفَهْمُ الْعَقْلِيُّ عِنْدَ الْبَعْضِ فَيُحْدِثُ عِنْدَهُ تَناقُضَاً عَلى مُسْتَوَى ذَكَائِهِ الرُّوحِيِّ فَيُرْسِلُ فَاعِليَّةً إدْرَاكِيَّةً تَظْهَرُ بِمَظْهَرِ الذَّكَاءِ النَّفْسِيِّ تُلْزِمُ عَالَمَ الْعَقْلِ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ مُفْرَدَاتٍ مُسْتَقْطَبِةٍ مِنْ خَارِجِ الْوَعْيِ لِتُشَكِّلَ ذَكَاءً عَقْلِيَّاً يَحُلُّ مُشْكِلَةَ هَذَا التَّنَاقُضِ النَّاشِئِ ، فَتَرَى الذَّكَاءَ الْعَقْلِيَّ يَظْهَرُ بِحِيْرَتِهِ النَّفْسِيَّةِ .
فَيَقُولُ : كَيْفَ يُمْكِنُ أنْ تَجْتَمِعَ الْفَاعِلِيَّةُ وَالْانْفِعَالِيَّةُ فِي الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ ؟
الْجَوَابُ هُنَا دَقِيْقٌ وَيَدْخُلُ فِيْ فَهْمِ قَانُونِ الْانْفِعَالِيَّةِ فِيْ ذَاتِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ بِحَيْثُ يَجِبُ التَّمْيِيزُ تَمَامَاً فِي بُنْيَةِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ بَيْنَ فَاعِلِيَّةِ الْإدْرَاكِ فِي الْأشْيَاءِ الْوَارِدَةِ إلَى الْوَعْيِ وَبَيْنَ انْفِعَالِيَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ عَنِ الْوَارِدِ نَفْسِهِ ، فَإنَّهُ بِلَا وَارِدٍ لَاتَكُونُ فَاعِلِيَّةُ إدْرَاكٍ فَإنَّ فَاعِلِيَّةَ الْإدْرَاكِ فِي الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ إنَّمَا تَتَحَرَّكُ فِي الْوَارِدِ الْجَدِيْدِ وَإدْرَاكِهِ عَلَى ذَاتِيَّتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ وَمِنْ ثَمَّ إدْرَاكُ كُلِّ تَشَعُّبَاتِ ارْتِبَاطَاتِهِ بِكُلِّ الْوَارِدَاتِ إلَى الْوَعْيِ ، فَمَعَ كُلِّ وَارِدٍ تَنْشَأ إدْرَاكَاتٌ جَدِيْدَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يَجِبُ إدْرَاكَهُ مِنْ تَرَابُطَاتٍ بَيْنَ الْوَارِدِ الْوَافِدِ وَالْوَارِدَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ السَّابِقَةِ .
وَهُنَا نُلَاحِظُ أنَّ الْوَارِدَ الْوَافِدَ أحْدَثَ فِعْلَاً فِي الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ فَاتَّقَدَ انْفِعَالَاً لِيُمَارِسَ فَاعِلِيَّةَ إدْرَاكِهِ عَلَى هَذَا الْوَارِدِ الْوَافِدِ ، وَمِثَالُ ذَلِكَ حَالَةُ الْغُرْفَةِ السَّوْدَاءِ .
(حَالَةُ الْغُرْفَةِ السَّوْدَاءِ تَتَمَثَّلُ فِيْمَا لَوْ أنَّنَا وَضَعْنَا طِفْلَاً حَدِيْثَ الْوِلَادَةِ فِي غُرْفَةٍ سَوْدَاءَ لَايَصِلُ إلَيْهَا وَارِدَاتٌ خَارِجِيَّةٌ لَامَسَامِعَ وَلَا مُبْصَراتٍ وَلَا رَوَائِحَ ، فَإنَّ وَعْيَ هَذَا الطِّفْلِ لَا يُمْكِنُ أنْ يَتَوَسَّعَ إلَّا بِحُدُودِ مَا الْتَقَطَهُ ذَكَاؤُهُ الرُّوحِيُّ خِلَالَ وُجُودِهِ فِي رَحْمِ الْأُمِّ وَبِالتَّالِي يَتَرَاجَعُ وَعْيُهُ عَنْ وَعْيِ بَاقِي الْأطْفَالِ الَّذِيْنَ هُمْ خَارِجَ الْغُرْفَةِ السَّوْدَاءِ وَالَّذِيْنَ يُمَارِسُونَ اسْتِقْبَالَ الْوَارِدَاتِ وَإدْرَاكَهَا بِفَاعِلِيَّةٍ مَعَ بَاقِي الْمُدْرَكَاتِ ) .
وَكَذَلِكَ أيْضَاً نَجِدُ هَذَا الْقَانُونَ ( قَانُونَ الْانْفِعَالِيَّةِ ) يَتَجَسَّدُ عِنْدَ مُعَاقِيْ الْحِسِّ الَّذِيْنَ وُلِدُوا بِتِلْكَ الْإعَاقَاتِ ، فَمَنْ وُلِدَ أعْمَى بِلَا عُيُونٍ إنَّمَا يَتَطَوَّرُ وَعْيُهُ فِي كُلِّ الْجَوَانِبِ الْغَيْرِ صُورِيَّةٍ ، حَتَّى جَانِبُ الصُّوَرِ الْبَصَرِيَّةِ إنَّمَا يَتعَرَّفُ عَلَيْهِ بِرَسَائِلَ ذَكَاءٍ رُوحِيٍّ مُرْتَبِطٍ بِالْبَدَائِلِ عَنِ الْبَصرِ ، وَلِذَلِكَ تُصْبِحُ أحْلَامُهُ ذَاتَ مُدْرَكَاتٍ سَمْعِيَّةٍ وَلَمْسِيَّةٍ وَرَوَائِحَ وَتَذَوُّقَاتٍ خَالِيَةٍ مِنَ الصُّوَرِ الْبَصَرِيَّةِ ، فَهُوَ مَثَلَاً لَمْ يَسْتَقْبِلْ صُورَةً مُعَرِّفَةً يُدْرِكُهَا بِذَكَائِهِ الرُّوحِيِّ عَنِ الْلَّونِ الْأحْمَرِ وَبِالتَّالِيْ لَا يُمْكِنُهُ رَبْطَ الْحَقِيقَةِ اللَّوْنِيَّةِ الْحَمْرَاءِ مَعَ بَاقِيْ الْوَارِدَاتِ إلَى وَعْيِهِ ، إذَاً رَغْمَ قَانُونِ الْإطْلَاقِ فِي الْوَعْيِ إلَّا أنَّ الْوَعْيَ يَخْضَعُ إلَى قَانُونِ الْانْفِعَالِ لِيَتَحَرَّكَ بِفَاعِلِيَّةِ إدْرَاكِهِ فِي الْوَارِدَاتِ .
وَهُنَا نَجِدُ أنَّ فَاقِدَ الْبَصَرِ مُنْذُ الْوِلَادَةِ إنَّمَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْوَارِدَاتِ الْبَصَرِيَّةِ السَّبْعَةِ الدَّاعِمَةِ لِبَصَرِ الْعَيْنِ لِيُشَكِّلَ بَدَائِلَ صُورِيَّةً فِي عَالَمِ الْبَصَرِ تَسُدُّ الْفَرَاغَ الَّذِي سَبَّبَهُ فُقْدَانُ الْحَاسَّةِ الْبَصَرِيَّةِ فِي الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ ، وَبِذَلِكَ يَسْتَمِرُّ الذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ فِي التَّوَسُّعِ وَالْارْتِقَاءِ مُعْتَمِدَاً عَلَى مُسْتَقْطِبَاتِ الصُّوَرِ الْبَصَرِيَّةِ الْبَدِيْلَةِ لِلْعَيْنِ ، وَإنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُسْتَقْطِبَاتُ لَاتَصِلُ إلَى مُسْتَوَى وَكَفَاءَةِ اسْتِقْطَابِ الْعَيْنِ لِلصُّوَرِ وَلَكِنَّهَا تُشَكِّلُ بَدِيْلَاً مُمْتَازَاً لِهَؤُلَاءِ .
قَانُونُ الْاسْتِغْرَاقِ
إنَّ لِلذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ قَانُونَاً آخَرَ غَيْرَ قَانُونِ الْإطْلَاقِ وَقَانُونِ الْانْفِعَالِ بَلْ هُوَ قَانُونٌ عَجِيْبٌ فِي حَقِيْقَتِهِ لِمَنْ طَالَعَ وُجُودَهُ .. إنَّهُ قَانُونُ الْاسْتِغْرَاقِ ، وَهُوَ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ أنَّهُ يَسْتَغْرِقُ كُلَّ شَيْئٍ فِي تَوَجُّهِ فَاعِلِيَّةِ إدْرَاكِهِ .
فَالذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ لَا يَتْرُكُ أيَّ هُوِّيَّةٍ أوْ مَاهِيَّةٍ تُشْرِقُ عَلَيْهِ إلَّا وَيَنْفَعِلُ عَنْهَا لِيُفَعِّلَ إدْرَاكَهُ فِيْهَا ، فَهُوَ يَسْتَغْرِقُ بِهَذِهِ الْحَقِيْقَةِ الْكُلَّ مِمَّا وُصِفَ بِالشَّيْئِيَّةِ وَمِمَّا لَا يُوصَفُ .
وَأقْصِدُ هُنَا بِمَا يُوصَفُ بِالشَّيْئِيَّةِ كُلَّ مَا نَقُولُ عَنْهُ شَيْئَاً ، فَالشَّجَرَةُ شيْئٌ ، وَالْوَرْدَةُ شَيْئٌ ، وَالْمَجَرَّةُ شَيْئٌ ، وَالْإنْسَانُ شَيْئٌ ، وَالْكَوْنُ شَيْئٌ .
وَأقْصِدُ هُنَا بِمَا لَا يُوصَفُ بِشَيْئِيَّةٍ كُلَّ الْوُجُودَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْوُجُودَ الْإلِهِيَّ .
فَقَانُونُ الْاسْتِغْرَاقِ فِي الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ إنَّمَا يُمَارِسُ فَعَالِيَّةَ إدْرَاكِهِ عَلَى كُلِّ الْأشْيَاءِ وَكَذَلِكَ يَسْتَمِرُّ هَذَا الْإدْرَاكُ حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْوَارِدَاتُ هِيَ مَعَارِفَ عَنِ الْوُجُودِ الْإلَهِيِّ رَغْمَ أنَّهُ يُدْرِكُ فِي كُلِّ ارْتِقَاءَاتِ وَعْيِهِ عَجْزَهُ عَنْ إدْرَاكِ ذَاتِيَّةِ الْألُوهِيَّةِ إلَّا أنَّهُ بِقَانُونِ الْاسْتِغْرَاقِ مَحْكُومٌ بِأنْ لَا يَتَوَقَّفَ عَنْ فَاعِلِيَّتِهِ لِإدْرَاكِهَا ، وَهُنَا نَجِدُ كَيْفَ أنَّ بَعْضَ الشَّرَائِعِ وَخُصُوصَاً الشَّرِيْعَةَ الْإسْلَامِيَّةَ أكَّدَتْ عَلَى عَدَمِ جَدْوَى وُصُولِ الْوَعْيِ بِكُلِّ ذَكَائِهِ الرُّوحِيِّ إلَى اسْتِغْرَاقِ الذَّاتِ الْإلَهِيَّةِ وَإدْرَاكِ كُنْهِهَا وَالْإحَاطَةِ بِهُوِّيَّتِهَا ، فَإنَّ تَوَهُّجَ الرُّوحِ مَهْمَا اشْتَدَّ فِيْ دَفقِ الْحَيَاةِ وَمَهْمَا تَعَمْلَقَ بِوَعْيِ ذَكَائِهِ الرُّوحِيِّ فَإنَّ الْمَخْلُوقِيَّةَ حَقِيَقَتُهُ ، وَالْمَخْلُوقِيَّةُ بِقَانُونِ الْأرْوَاحِ لَا تُحِيْطُ بِالْخَالِقِيَّةِ وَإنْ تَعَرَّفَتْ عَلَى بَعْضِ مَعَارِفِهَا إلَّا أنَّهَا تَبْقَى قَاصِرَةً عَنْهَا ، وَهَذَا الْقُصُورُ نَاتِجٌ طَبِيْعِيٌّ حَقِيْقِيٌّ لِوُجُودِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ فِي مُسْتَوَى الرُّوحِ وَمُسْتَوَى التَّوَهُّجِ الْحَيَاتِيِّ عَنِ الْهُوِّيَّةِ ، فَإنَّ الذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ مَهْمَا بَلَغَ يَبْقَى قَاصِرَاً عَنِ الْهُوِّيَّةِ ، فالذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ إنَّمَا هُوَ عَنْ تَوَجُّهِ جَوْهَرِ الْفَرْدِ الْمُسَمَّى الرُّوحَ ؛ بَيْنَمَا الْهُوِّيَّةُ فَلَيْسَتْ جَوْهَرَاً فَرْدَاً بَلْ هِيَ الْكُنْهُ الَّذِيْ صَنَعَ جَوْهَرَ الْفَرْدِ عَلَى الْعَيْنِ الَّتِيْ هِيَ سِرُّ الْخَالِقِ فِي الْمَخْلُوقِ .
وَعَلَيْهِ فَإنَّ الذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ إنَّمَا يَعْجَزُ عَنْ مُمَارَسَةِ فَاعِلِيَّةِ إدْرَاكِهِ عَلَى الْهُوِّيَّةِ وَلَكِنَّهُ يُحَافِظُ عَلَى قَانُونِ الْاسْتِغْرَاقِ فَلَا يَكُفُّ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَنِ الْاسْتِمْرَارِ فِي فَاعِلِيَّةِ الْإدْرَاكِ ، وَمِنْ هُنَا يَنْتِجُ كَنَتِيْجَةٍ طَبِيْعِيَّةٍ لِهَذَا الْاسْتِغْرَاقِ الْعَاجِزِ عَنِ الْوُصُولِ إلَى مَاهُوَ فَوْقَهُ أنْ يُوجِدَ فِي حَيِّزِ وَعْيِهِ ذَكَاءً رُوحِيَّاً لَا يَطَالُ الْحَقِيْقَةَ فَإنَّ الذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ بِقَانُونِ الْاسْتِغْرَاقِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ أنْ يَصِلَ إلَى حَقِيْقَةِ كُلِّ مَاهُوَ دُونَهُ أيْ دُونَ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ وَيَبْقَى حَائِرَاً فِيْمَا هُوَ أعْلَى مِنْهُ وَلِأنَّهُ بِخُصُوصِيَّةِ الْإطْلَاقِ الَّذِيْ سَمَّيْنَاهُ قَانُونَ الْإطْلَاقِ يَبْقَى فَعَّالَاً دَرَّاكَاً فَإذَا بِهَذِهِ الْفَاعِلِيَّةِ الدَّرَّاكَةِ تُوصِلُهُ إلَى أوْهَامٍ فِي الْمُسْتَوَى الَّذِي هُوَ أعْلَى مِنْهُ لِأنَّ الذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ إنَّمَا يَرْتَقِي عَلَى حِسَابِ إدْرَاكَاتِ الْوَارِدَاتِ الْوَافِدَةِ فَيَتَمظْهَرُ وَعْيُهُ دَاِئمَاً حَيْثُ بَلَغَ فِي فَاعِلِيَّتِهِ الذَّكَائِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ ، فِي حِيْن أنَّ الْوُجُودَ الْإلَهِيَّ وَالْهُوِّيَّةَ الْأعْلَى مِنْ جَوْهَرِ الرُّوحِ الْفَرْدِ لَا تُعْطِي ذَاكَ الذَّكَاءَ كُلَّ رَقَائِقِ نُورِهَا بَلْ تَتَجَلَّى بِمَا هُوَ وُسْعُ الرُّوحِ فَقَطْ ، وَبِالتَّالِي يَفْقِدُ قَانُونُ الْاسْتِغْرَاقِ حَاكِمِيَّتَهُ عَلَى الْهُوِّيَّةِ لِعَجْزِهِ عَنِ اسْتِغْرَاقِهَا .
حَقَّاً حَقَّاً الْعَجْزُ عَنْ إدْرَاكِ الْهُوِّيَّةِ هُوَ فِي الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ إدْرَاكٌ .
( نقلاً عن كتاب علم الذكاء الروحي للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .