( مَعْرِفَةُ الحَقِّ لَا تَشْتَرِطُ أنْ تَخْلَعَ ذَاتَكَ عَن كُلِّ مُقَيَّدٍ )
مِنَ العَبْدِ الفَقِيْرِ إلَى رَبِّهِ تَعَالَى هَانِيْبَالْ يُوسُفْ حَرْبْ إلَى (………)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ وَبَعْدُ :
اعْلَمِي يَا أمَةَ اللهِ تَعَالَى أنَّ مَا قُلْتِهِ فِيْ سِرِّ الْحُبِّ حَيْثُ قُلْتِ :
( إنَّ سِرَّ الحُبِّ هُوَ الفَنَاءُ فِي المَحْبُوبِ وَالبَقَاءُ فِي الحُبِّ ذَاتِهِ .. ألَيْسَ ذَلِكَ هُوَ رَتْقُ الفَتْقِ ! وَعَوْدَةُ الرُّوحِ ! وَالخَلَاصُ مِن عَوَالِقِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ وَالصُّوُرِ والأحْوَالِ ؟
وَهَلْ إلَى ذَلِكَ مِن سَبِيْلٍ سِوَى وَمَضَاتٍ تَتَحَرَّرُ فِيْهَا الرُّوحُ مِنَ القُيُودِ الدُّنْيَوِيَّةِ ! فَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أحَدٌ ! وَتَعُودُ النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ إلَى رَبِّهَا رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَتَدْخُلُ فِي عِبَادِهِ وَتَدْخُلُ جَنَّتَهُ ! قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ! الَّذِي يُؤتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ، وَمَا لِأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزَى، إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى ، وَلَسَوْفَ يَرْضَى ) .
نَعَمْ أيَّتُها السَّيِّدَةُ وَإنَّهُ لَجَمِيْلٌ مِنْكِ يَا دُكْتُورَة أنْ تُرَسِّخِي مَعْنَى التَّجَرُّدِ فِي الحُبِّ فِي إطَارِ الفَنَاءِ وَالبَقَاءِ ، وَلَكِنَّ الفِكْرَةَ الغَرِيْبَةَ الَّتِي أسْمَعُهَا دَائِمَاً هُوَ مَا ذَكَرْتِ مِن وُجُوبِ الخَلَاصِ مِن عَلَائِقِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ وَالصُّوُرِ وَالأحْوَالِ ..
مَنْ قاَلَ لِلعَالَمِ أنَّهُ إذَا أرَادَ مَعْرِفَةَ الحَقِّ يَجِبُ أنْ يَتَخَلَّى عَنِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ وَالصُّوَرِ وَالأحْوَالِ ؟!
عَجِيْبٌ كَيْفَ أنَّ هَذِهِ الفِكْرَةَ مُنْتَشِرَةٌ فِي بِلَادِنَا وَكَأنَّنَا أتْبَاعُ بُوذَا !!!
الإسْلَامُ فِكْرٌ حَضَارِيٌّ وَلَيْسَ فِكْرَاً هُرُوبِيَّاً ، فَكَلِمَةُ الخَلَاصِ عَنِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ وووو .. هَذَا فِكْرٌ هُرُوبِيٌّ تَعْجِيْزِيٌّ لَيْسَ مِن إسْلَامِنَا فِي شَيْءٍ .
ألَمْ نَنْتَبِهْ أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَّمَ اللهَ تَعَالَى فِي تَعْيِيْنٍ مَكَانِيٍّ هُوَ جَبَلُ الطُّورِ ، وَفِي زَمَنٍ خَضَعَ لِقَوَانِيْنِ الزَّمَنِ الأرْضِيِّ أصَلَاً ، وَمِن صُوَرٍ مَألُوفَةٍ جِدَّاً مَوْجُودَةٍ فِي كُلِّ بُقْعَةٍ فِي هَذَا الْكَوْكَبِ .. الشَّجَرَةُ وَالنَّارُ وَالجَبَلُ وَالعَصَا وَالحَيَّةُ .. ، وَفِي حَالٍ خَاصٍّ هُوَ حَالُ الوَصْلِ وَالمُنَاجَاةِ ؟
ألَمْ يَنْفُخْ جِبْرِيلُ المُتَمَثِّلُ صُورَةً بَشَرِيَّةً رُوحَ اللهِ وَكَلِمَتَهُ فِي مَادَّةِ مَرْيَمَ وَظَهَرَ المَسيْحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَادَّةِ لَحْمٍ وَدَمٍ بَشَرِيٍّ .. ؟؟!!
ألَمْ يَعْرُجْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَشَاهَدَ مَا شَاهَدَ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ الشَّرِيْفَيْنْ ؟!
أنَا شَخْصِيَّاً لَمْ أسْمَعْ أنَّ سَيِّدِي مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَلَعَ عَنْهُ صُورَتَهُ أو حَالَهُ ؛ بَلْ كَانَ يُنَاجِي الْحَقَّ وَهُوَ الوَصُولُ المَوْصُولُ فِي صَلَاتِهِ إمَامَاً بَيْنَ النَّاسِ ، وَكَانَ يُقَابِلُ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ بَيْنَ أهْلِهِ وَ أصْحَابِهِ .
وَكَذَلِكَ اسْتَغرَبْتُ جَوَابَكِ يَا دُكْتُورَة عِنْدَمَا سَمِعْتُ رَدَّكِ حَيْثُ قُلْتِ فِي الجَوَابِ :
( سَيِّدِي إنَّمَا قَصَدْتُ الإطْلَاقَ ! ألَيْسَ الإطْلَاقُ تَنَزُّهَاً عَنِ القُيُودِ ؟
ألَيْسَ فِي سِرِّ الإخلَاصِ أنْ نَشْهَدَ المُطْلَقَ مِنْ كُلِّ مُقَيِّدٍ ؟ هَذَا مَا كُنْتُ أقْصِدُ قَوْلَهُ .
إذَا كُنْتَ مَعَ اللهِ تَتَجَاوَزُ مِنَ الحَضَرَاتِ المُخْتَلِفَةِ ، مِنَ المُقَيِّدَاتِ إلَى الإطْلَاقِ وَ إلَى الحَقِيْقَةِ الوَاحِدَةِ ، إطْلَاقُ الحَقِّ مِنَ الصُّورَةِ إلَى السُّورَةِ مَثلُ نُورِهِ كَالمِصْبَاحِ .. المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ .. أوَلَسْنَا نَحْنُ الزُّجَاجَةُ نَشْهَدُ النُّورَ نُورَ اللهِ مِن وَرَاءِ الزُّجَاجَةِ ؟
أوَ لَيْسَ { لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ } هُوَ الإطْلَاقُ عَنِ الجِهَاتِ ؟
أوَلَيْسَ كَمَالُ الْحَقِّ بِظُهُورِهِ بِالمُقَيِّدَاتِ دُونَ أنْ يُقَيِّدَهُ قَيْدٌ !!
يَا تُرَى سِرُّ الحُبِّ هُوَ الحَبِيبُ المُصْطَفَى الرَّؤُوفُ الرَّحِيْمُ الَّذِي هُوَ رحْمَةٌ لِلعَالَمِيْنَ ؟ الَّذِي تَمْتَدُّ رَقَائِقُ النُّورِ مِنْهُ إلَيْنَا { فَذَكِّرْ إنَّمَا أنْتَ مُذَكِّرٌ } وَبِمَدَدٍ مِنْ أوْلِيَائِهِ { تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } ! نَشْهَدُ الأغْيَارَ وَالصُّوَرَ { وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيْطٌ } !
وَ { نَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيْدِ } العَبْدُ المُحِبُّ لِلَّهِ يُصْبِحُ اللهُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَقِوَاهُ ! إذَا تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ كَمَا وَرَدَ فِي الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ .
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ } فَإنْ كَانَ شَبَهٌ مِنَ البُوذِيَّةِ فِي التَّعْبِيْرِ فَلَيْسَ فِي البُوذِيَّةِ فِكْرٌ إلَّا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ دُخُولِ الإسْلَامِ إلَى بِلَادِهِمْ وَتَفْكِيْرِهِمْ ، وَإنَّمَا كَانَتْ تَعَالِيْمُ بُوذَا بَسِيْطَةٌ جِدَّاً وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي تَوَارِيْخَ بَيِّنَةٍ فِي كُتُبِهِمْ وَهِيَ الآنَ مَوْجُودَةٌ عَلَى الإنْتَرنِت ) .
وَهَذَا رَدِّي عَلَى مَا قُلْتِ :
أوَّلَا : يَحْفَظُكِ اللهُ .
ثَانِيَاً : قَوْلُكِ ( ألَيْسَ الإطْلَاقُ تَنَزُّهَاً عَنِ القُيُودِ ؟ )
أقُولُ : لَا ، الَّذِيْ تَذْكُرِيْنَ إنَّمَا هُوَ الإطْلَاقُ العَقْلِيُّ كَمَا يَفْهَمُهُ العَقْلُ، أمَّا الإطْلَاقُ الَّذِي يُعْطِيْ الشُّهُودَ فَهُوَ إطْلَاقٌ رُوحِيٌّ ، الأحَدِيَّةُ سِمَتُهُ ، فَفِي الإطْلَاقِ العَقْلِيِّ نَلْحَظُ مُقَيَّدٌ وَمُطْلَقٌ ، وَمُطْلَقٌ وَ انْطِلَاقٌ عَن .. وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَصْلُحُ لِلحَقِيْقَةِ .
بَيْنَمَا الإطْلَاقُ الرُّوحِيُّ فَهُوَ حُرِّيَّةٌ عَنِ الأكْوَانِ ، وَلا يَكُونُ بِالانْخَلَاعِ بَلْ بِالتَّحَرُّرِ فِيْهَا ، فَتَكُونُ هِيَ تَحْتَ رِقِّي وَ لَسْتُ أنَا الَّذِي أكُونُ تَحْتَ رِقِّهَا .. وَشَتَّانَ بَيْنَ مَنْ يُطْلِقِ اللهُ رُوحَهُ وَقَلْبَهُ عَنِ الأكْوَانِ وَيَجْعَلُ الدُّنْيَا بَيْنَ يَديْهِ لا بِقَلْبِهِ ؛ وَبَيْنَ مَنْ يَخْلَعْ نَفسَهُ عَنِ الكَوْنِ .
ألَا تَرَيْنَ أنَّ الانتِحَارَ وَهُوَ التَّحَرُّرُ مِنَ الدُّنيَا إلَى الآخِرَةِ حَرَامٌ وَمَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ ؟ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأنَّ الإنسَانَ بَادَرَ بِنَفسِهِ وَلَمْ يَسْتَسْلِمْ لِرَبِّهِ لِيَكُونَ رَبُّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهُ .
نَحْنُ عَبِيْدٌ وَالعَبِدُ يَخْضَعُ لِكُلِّ مَا يُجْرِي عَلَيْهِ سَيِّدُهُ حَتَّى التَّحَرُّرَ الرُّوحِيَّ عَنِ الكِيَانَاتِ المَخْلُوقَةِ .
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ
( من كتاب الكتب الخيرة للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب ) .
أقرأ التالي
12 يونيو، 2020
حكمة عدم تقييد خلق كن – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
1 أبريل، 2020
خصوصيةُ علومِ الجَمالِ والجلالِ في سُورةِ طَه – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
5 يونيو، 2020
من أدلة الوحدانية في هذا العالم الحادث – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
زر الذهاب إلى الأعلى