مَحَلُّ الإلهَامِ ومَحَلُّ الفُجُورِ ومَحَلُّ التَّقوَى
اعلمْ زادَك الله تعالى مِنْ نورِ الإلهَام وأيَّدَك بِروحِ الإفهَامِ أنَّ الإلهَامَاتِ بَرِيدُ الباطنِ تارةً وبَريدُ الظاهرِ تارةً، تَحمِلُ المَعلوماتِ مِنْ حَضَراتٍ أسمَائِيَّةٍ يُشرِف عليها اسم الله العليم كَاسم الحَكيمِ واسم الخَبيرِ وعَالِم الغَيبِ وعَالِمِ الشَّهادَةِ ، وعَالِمِ الغَيبِ والشهادةِ وعَالِمِ الشهادةِ والغَيبِ ، وفرقُ هذا الأخِيرِ عَنْ سَابقِهِ أنَّ عَالِم الغَيبِ والشَّهادةِ يَمنحُكَ عُلوماً مِنْ أنباءِ الغَيبِ خَارِجةً إلى عَالِم الشَّهادةِ ، بِينَمَا الآخرُ عَالِم الشهادةِ والغَيبِ فإنَّه يُسافرُ بكَ مِنْ مَعلُوماتِ الشهادةِ الظاهرةِ إلى مَعلومَاتِ أنبَاءِ الغيبِ ، فهذا سَفَرٌ عِلْمِيٌّ مِن ظاهرٍ إلى بَاطنٍ ، والآخرُ سَفَرٌ عِلمِيٌّ مِن بَاطنٍ إلى ظَاهرٍ ، وهذه المَعارِفُ والعلومُ يمكنُ أنْ تَصُبَّ في دَرجاتِ الوَحي العَشَرَة ، والتي أحد درجاتِه درجةُ الإلهامِ ، والإلهَامُ كَمَعلومَاتٍ يشتركُ معَ عَوَالمِهِ كلُّ آلياتِ الدماغ في ظُهورِهِ الأخيرِ ، إلَّا أنَّ مَعنَوِيته لَها مَحَلٌّ وهوَ النَّفسُ فَالنَّفسُ هيَ مَحَلُّ الإلهامِ ، وأجهزةُ الدمَاغ هيَ أدوَاتُ تفسيرِهِ وإبرَازِهِ إلى خارج الإنسانِ .
النَّفْسُ كَمَحَلٍّ والجَدِيرُ بالذِّكر هنا أنَّ النفس كَمَحَلٍّ تنقسم إلى بُعدَينِ، البُعدُ الأوَّلُ : يَحمِلُ جميعَ المعلوماتِ الوَاردة مِن عالَم الإلهَام الغائبِ ، والتي تَخُصُّ برامجَ الفُجُورِ العامَّةِ والخاصَّةِ ، أمَّا البُعدُ الثانِي : فهوَ يَحمِلُ جميعَ المعلومات الوَاردَةِ مِن عالَم الإلهَام الغائبِ ، والتي تخُصُّ برامجَ التقوَى العامَّةِ والخاصَّةِ .
فإمَّا أنْ يكونَ الإنسان في بُعْدِ الإلهامِ الفاجرِ فتُصبِحَ نفسُه طاغيةً مُتجَبِّرةً ، وإمَّا أنْ يكون في بُعْدِ الإلهَام التَّقِي فتُصبِحَ نفسُه زكيَّةً مُطمئِنةً عِلماً أنَّ الله تعالى أعطى مِفتَاحَ هذَينِ البُعدَين لِلإنسان ، وتركَ له الخيارَ لِيختارَ في أيِّ بُعدٍ يكونُ ، وتستطيعُ أنْ تقرأَ إنْ شِئتَ قوله تعالى في سورة الشمس الآية السابعة والثامنة : بسم الله الرحمن الرحيم : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} الشمس .
وعليهِ نَستطيعُ أنْ نقولَ أنَّ الإلهامَ مَحَلُّه النَّفسُ، و أنَّ النَّفسَ مَقسُومةٌ إلى مَحَلَّينِ : مَحَلٌّ لِإلهَامَاتِ الفُجورِ ومَحَلٌّ لِإلهَامَاتِ التقوَى ، ومَنْ شاءَ أنْ يَستَأنِسَ بالحديث الشريفِ حيثُ أشارَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وصحبهِ أجمَعِينَ إلى نَفسِهِ الشرِيفةِ بِأُصبُعِهِ وقالَ : (( التَّقوَى هَاهُنا التَّقوَى هَاهُنَا ))
ولَعلَّهُ صلى الله عليه وسلم وآلِه وصحبهِ أجمعينَ يُؤكِّدُ بهذِه الحرَكةِ التي تُشير إلى مَوضِعٍ مُعيَّنٍ هو القسم الأعلى مِنَ الجسمِ مَعَ المُلاحَظةِ أنَّ الوَاقفَ في الصَّلاة يَفصِلُ بيدَيهِ
جسمَه إلى قسمينِ عُلوي وسُفلي ، فَالأحنافُ قد اعتَبَروا أنَّ السُّرَّةَ هي مُنتَصَفُ الجسمِ ، وأنَّ اليَدَين يَفصِلان مَا تحتَ السُّرَّةِ ومَا فوقَ السُّرَّةِ .
بَينمَا الإمام الشافعي رحمَه الله اختارَ وضْعَ اليدَين عندَ الحِجاب الحَاجِز فَاعتَبَرَ مَا فوقه لِلعالَم العُلوِيِّ وما دُونه لِلعالَم السُّفلِيِّ كمَا شرحَ ذلك الإمام الغزاليُّ رحمه الله تعالى .
وكُلٌّ له أدِلتُه وعلى كلِّ الاعتبَاراتِ كانت إشارَة النَّبي صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أجمعينَ إلى مَوضِعٍ اُتُّفِقَ بين الجميعِ على أنَّه مِنَ العالَم العُلويِّ ، وعلى مَا سَبَقَ نستطيعُ أنْ نُحدِّدَ بدِقَّةٍ أنَّ القسم النفْسِيَّ الذي هو مَحَلُّ وَارِداتِ الإلهَام الحَاملةِ لأنوَار التقوَى إنَّمَا هيَ القِسمُ العُلويُّ مِنَ الإنسَانِ ، بَينمَا يَبقى القسمُ السُّفلِي منه هوَ مَوضِعُ وَاردَاتِ الإلهَاماتِ النَّفْسِيَّةِ الحَاملةِ لِمَعلوماتِ الفُجورِ .
وتستطيعُ أنْ تلاحِظَ أنَّ رُوحَ الشَّريعَةِ الإسلَاميَّةِ كمَا كُلُّ شرَائعِ الأرض إنَّمَا تَعتَبِرُ الهُبوط في العالَم السفلِي دَرَكاتٍ ، وفيها كُلُّ السَّلبِيَّاتِ بَينمَا تَعتبِرُ الصعُود في العالَم العلوِي دَرَجاتٍ فيها كُلُّ الإيجَابِيَّاتِ والسُّمُوِّ الأخلاقي ، فطُوبَى لِمَنِ ارتَقَى في دَرجاتِ إِلهَامَاتِ تَقوَاهُ ، وخَابَ وخَسِرَ مَنْ هوَى في دَرَكاتِ إِلهَاماتِ فُجُورِه .
وعليهِ نُلَخِّصُ ونقولُ : إنَّ الإلهامَ مَحلُّه النَّفْسُ ، وإنَّ النَّفْسَ مَقسُومَةٌ إلى مَحَلَّينِ مَحَلٌّ لإلهَامَاتِ الفُجُورِ ومَحَلُّهُ القسمُ السفلِيُّ ، ومَحَلٌّ لإلهَامَاتِ التَّقوَى ومَحلُّهُ القسمُ العلوِيُّ منها .
( من كتاب علم المحلات للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب ) .
أقرأ التالي
16 يونيو، 2020
توجه رحماني
29 مايو، 2020
الإنسان الحرف الأكبر – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
16 يونيو، 2020
الصدق هو العنصر الثاني في معادلة سر الحياة – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
زر الذهاب إلى الأعلى