كُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ وتَوَهُّجُ القَانُونِ الكَينُونِيِّ – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

كُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ وتَوَهُّجُ القَانُونِ الكَينُونِيِّ

كلمةُ قَانونٍ تَعنِي قَاعِدةُ الإجرَاءِ .

القَانونُ الكَينُونِيُّ يَعنِي قًاعدةُ إجرَاءَاتِ الحَياةِ الكَونيَّةِ، أيْ القَانونُ الذِي يَقودُ غَايةَ الوجُودِ الكَونِيِّ وتَطوُّرَهُ .

القَانونُ الكَينُونِيُّ : هوَ قاعدةُ إجرَاءَاتِ الإدرَاكِ الخَلَّاقِ الفَعَّالِ الكَيَانِيِّ، الذِي يُخلَقُ على أسَاسِهِ الكَونُ ويُحَافَظُ علَيهِ ويُفنِيَه .

كَلمةُ كَينُونِيٍّ تَعنِي كُلِّيَّ الشُّمُولِ في الكُنْهِ، مِمَّا يَعنِي الإحَاطةَ الشُّمُوليَّةَ لِكُلِّ الكَونِ . عِندَما نَقولُ كَينُونِيَّاً، يَشمَلُ ذَلكَ كُلَّ مَا هوَ مُوجَدٌ في الطَّبيعَةِ في حَالةِ وُجودِهِ الجَامِدِ، أو في حَالَةِ وُجودِهِ الدِّينَامِيكِيِّ .

إنَّ مَا نَجِدُ في الوُجودِ هوَ تَقَدُّمُ الحياةِ، حَيثُ تَبدُو الحَياةُ دَومَاً بِنَمطٍ تَقدُّمِيٍّ، نُسمِّي هذَا التَّقدُّمَ تَطوُّرَاً، وهوَ يُعبِّرُ عَنْ حَقِيقةِ العُبُورِ الكُنْهِيِّ .

وسَأشرَحُه لاحِقَاً حِينَما أتَكلَّمُ عَنِ التَّوَهُّجِ القُدرَوِيِّ؛ أيْ طَاقةِ الحَياةِ ( كُنْ و يَكونُ ) إنْ شاءَ اللهُ تعَالى .

يُخلَقُ الشَّيءُ ويَكبُرُ ويَنمُو إلى مَجَالِه الأقصَى، وفي النِّهايَة يَبدَأ بِالاضمِحلَالِ، يَضمَحِلُّ ويُصبِحُ مُتحَوِّلاً مَرَّةً أُخرَى .

إذاً نَجِدُ حَالةً مِنْ تَغَيُّرِ الأشيَاءِ. إنَّه تَجلِّي التَّغيرِ في الحَياةِ، إنَّه تَغَيُّرٌ إلى الحَالَةِ التِي تُحَافِظُ على التَّطَوُّرِ .

إنَّ هذِه النَّاحِيةَ المُتغَيرَةَ هيَ التِي تُحدِّدُ مَنزِلَةَ الكَونِ .

نَحنُ نَجِدُ أنَّ الأشيَاءَ تَتَغيَّرُ في الكَونِ، ولَكِنْ بِجَانبِ التَّغييرِ هنَاكَ المُحافَظةُ على الوجُودِ حَيثُ تُحافِظُ الحَياةُ على نَفسِها، وتَتطوَّرُ في الوَقتِ ذَاتِهِ .

إنَّ نَاحِيةَ المُحافظةِ هيَ نَوعٌ مِنَ الثَّبَاتِ، ونَاحِيةَ التَّطوُّرِ هيَ نَوعٌ مِنَ التَّغييرِ، وهيَ مِنْ رَاءِ الرُّبُوبيَّةِ العُظمَى، الاسمُ الذِي تَتَجلَّى بِه الحَياةُ لِيَخلَعَ الكُنْهُ الذاتِيُّ لِلهُوِيَّةِ صُوَرَ أسمائِه على الوجُودِ بِه .

إنَّ المُحافظةَ على شَيءٍ مَخلُوقٍ هوَ الثَّباتُ، ولَكِنْ عِندَما يَتغيَّرُ هذَا الشَّيءُ إلى شَيءٍ آخرَ، عِندَما يَتطوَّرُ إلى حَالةٍ أعلَى أو يَتَدَنَّى إلى حَالةٍ أقَلَّ، نُسمِّي ذلكَ بِمرحَلةِ التَّغييرِ، لِذلكَ عِندَما نُفكِّرُ بِالقَانونِ الكَينُونِيِّ، عَلينَا الأخْذُ بِعَينِ الاعتِبَارِ هَاتَينِ الحَقِيقَتِينِ : 

حَقِيقةُ الثَّبَاتِ .

وَحَقِيقةُ التَّغييرِ فِي الكَونِ .

ونَرَى أنَّهُما مَوجُودَتَانِ في وَقتٍ وَاحِدٍ .

هذَا هوَ قَانونُ الخَلقِ و المُحافظةِ و التَّطوُّرِ .

عِندَما يَتِمُّ خَلقُ شَيءٍ مَا، وتتمُّ المُحافظةُ عَليه، وفي حِينِ المُحافظةِ عَليهِ يَتطوَّرُ، ويَصِلُ إلى أوْجِ تَطوُّرِهِ، ومِنْ ثَمَّ يَتَحلَّلُ، تَستَمِرُّ هذِه الحَلَقةُ مِنَ الخَلْقِ والمُحافظةِ والتَّطوُّرِ والتَّحَلُّلِ، وفي استِمرَارِها تَستَمِرُّ حَياةُ الكَونِ .

عِندَما نُعالِجُ القَانونَ الكَينُونِيَّ عَلينَا مُعالَجةُ المُقوِّمَاتِ المُختلِفةِ لِلكَونِ، وهيَ خَلْقُ الأشيَاءِ وخَلْقُ الحَياةِ .

قالَ تعَالى : بسم الله الرحمن الرحيم { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2} المُلْك .

والمُحافَظةُ على حَالَةِ الأشيَاءِ والحَياةِ المَخلُوقةِ، وتَطوُّرُ الحيَاةِ والمُحافظةُ عَليهَا، وأخِيرَاً عَودُ مَظاهِرِ الحَياةِ إلى بُطونِها الأصلِيَّةِ في ذَاتِ الكُنْهِ الغَيبِيِّ لِلهُوِيَّةِ .

مِنْ أجلِ أنْ نَرَى الصُّورَةَ الوَاضحةَ لِلقَانونِ الكَينُونِيِّ، فَلنَأخُذْ مَثَلاً على ذَلكَ في عَالَمِ المَادَّةِ : إنَّ الهِيدرُوجِينَ هوَ غَازٌ، والأوكسِجِينَ هوَ غَازٌ أيضَاً، يَتَجمَّعانِ ويُشكِّلَانِ المَاء (H2O)، لَقَد تَغيَّرَت نَوعِيَّةُ الغَازِ إلى مَاءٍ، لَكِنَّ الهِيدرُوجِينَ وَالأوكسِجِينَ بَقِيَا على حَالِهمَا، كَذلكَ يَتَجمَّدُ المَاءُ ويَتَحوَّلُ إلى جَلِيدٍ، لَقَد تَغيَّرَت نَوعِيَّةُ المَاءِ إلى جَلِيدٍ، ولَكِنَّ الهِيدرُوجِينَ والأوكسِجِينَ اللذَينِ هُمَا العُنصُرانِ الأسَاسِيَّانِ، يَبقَيَان على حَالِهمَا .

إنَّ بَقاءَ الهِيدرُوجِينِ والأوكسِجِينِ على حَالِهمَا هوَ نَتيجَةٌ لِقوَّةٍ مُعَينَّةٍ تَجمَعُهمَا، هُناكَ قَانونٌ أو نِظامٌ يُحافِظُ على تَكَامُلِ الهِيدرُوجِينِ والأوكسِجِينِ .

إنَّ هذَا القَانُونَ هوَ القانونُ الوَاحِدُ الذِي يُحافِظُ على حَالَةِ العُنصُرِ، ولَكِنْ في مُستويَاتٍ أُخرَى مِنَ الخَليقةِ يُؤدِّي هذَا المَجرَى لِلقَانونِ إلى نُشوءِ قَوانِينَ أخرَى لِتحوِيلِ نَوعِيَّةِ هذَا المُستوَى إلى تِلكَ، كَمَا يَتِّمُ تَحوِيلُ نَوعيَّةِ الغَازِ إلى مَاءٍ والمَاءِ إلى جَليدٍ .

تُحافظُ المُستوَياتُ المُختلفةُ مِنَ الخَلِيقةِ بِأشكَالِها المُختلِفةِ على تَطوُّرِها، إنَّ ظُهورَ نوعِيَّاتٍ جَديدةٍ هوَ ضَرورِيٌّ نَتيجةً لِظهُورِ قَوانِينَ جَدِيدةٍ، لِذلكَ نَجِدُ أنَّ جميعَ هذِه القَوانينِ الجَديدةِ تَظهرُ بِالرَّغمِ مِنَ استمرَاريَّةِ القَانونِ الأبدِيِّ في حَالتِهِ غَيرِ المُتَغيِّرَةِ، تَجرِي كُلُّ التَّغيُّراتِ على أرضِيَّةٍ ثابِتةٍ لا تتَغيَّرُ لِلعُنصُرِ المُكوِّن الأسَاسيِّ، هذَا مَا يُعطِي الصُّورةَ الوَاضحةَ لِلقانونِ الكَينُونيِّ ( هوَ قَاعدةُ إجرَاءَاتِ الإدرَاكِ الخَلَّاقِ الفَعَّالِ الكَيَانِيِّ، الذِي يُخلَقُ على أسَاسِهِ الكَونُ، ويُحافِظُ عليهِ ويُفنِيهِ ) .

واعلَمْ يَا وَلييِّ في اللهِ تعَالى أنَّ مِنْ حَضرةِ الوَاحديَّةِ نَعلَمُ حَقيقةَ أنَّ هنَاكَ قَانوناً وَاحداً لِلكَونِ لا يَتغيَّرُ أبداً، كَمَا يُوجَدُ قَوانِينُ لا تُعدُّ ولا تُحصَى تَكونُ مَسؤُولةً عَنْ كُلِّ التَّغيُّراتِ في الخَلِيقةِ .

 


( من كتاب الهوية للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .


 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى