كُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ، المُطلَقُ والنِّسبِيُّ
يَا وَلِييِّ في اللهِ تعَالى لِأشرَحَ هذِه المَعلومَةِ سَأستَعمِلُ مَجازاً كَلمةَ يَمتَدُّ، فَأقولُ : يَمتدُّ وُجودُ كُنْهِ الهُوِيَّةِ الَّلامَحدودِ مِنَ الوَصفِ الأبدِيِّ لِلمُطلَقِ البَاطِنِ إلى الحَالاتِ الكَثِيفةِ النِّسبِيَّةِ الدَّائِمَةِ التَّغيُّرِ لِلحياةِ الظاهِرةِ المُنبَثِقةِ عنهُ، تَماماً مِثلَمَا يَمتدُّ البَحرُ مِنَ السُّكونِ الأبدِيِّ في القَاعِ إلى النَّشاطِ الصَّاخِبِ لِطبِيعَتِه الدَّائمةِ التَّغيُّرِعلى مُستوَى السَّطحِ لِلأموَاجِ وعلى الشَّاطِئِ، حَيثُ تَجدُ طرَفاً مِنه هوَ سُكونٌ أبدِيٌّ غَيرُ مُتغيِّرٍ بِطبِيعَتهِ، والطَّرفَ الآخرَهوَالنَّشاطُ الدَّائِمُ في التَّغيُّرِ .
وَالكُنْهُ هُنا بَاطِنٌ ثَابتُ العَينِ، وظاهِرٌ مُتجَلٍّ بِالتنَوعَاتِ .
مَلحُوظةٌ هَامَّةٌ : كُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ هوَ الوُجودُ المَحضُ، ولِذلكَ لا يَمتدُّ إلى مَا لَيسَ بِوجودٍ، وَلَيسَ لَه مُجاوِرٌعَدَمِيٌّ يَمتدُّ إليهِ، ولِذلكَ قُلتُ سَأستَعمِلُ كَلمةَ يَمتدُّ مَجازاً فَتَنَبَّه تَرْشُد .
يُمثِّلُ التَّجلِّي النَّشِطُ – الوَجهُ النِّسبيَّ لِبحرِ الوجُودِ المتَّنوُّع دوماً – ذَاتيَّةَ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ في ظُهورِهِ .
في حِين يُمثِّلُ التَّجلِّي الثابتِ دوماً لِقَعرِ بَحرِالوجُودِ الوَجهَ الأبدِيَّ والمُطلَقَ الذِي لا يَتغيَّرُفي بُطونِهِ .
هذِه هيَ حَقِيقةُ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ مَعَ عَالَمِ الأشكَالِ والظوَاهرِ الذِي نَعِيشُ فيهِ .
إنَّ كِلَا التَّجلِّيَينِ؛ النِّسبيِّ والمُطلَقِ همَا دَفْقُ حَياةِ قَيُّوميَّةِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ .
إنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ هوَ أبدِيَّةٌ لا تَتغيَّرُ في حَياتِها المُطلَقةِ، وهيَ دَائمةُ التَّغيُّرِ بِشكلٍ أبدِيٍّ في حَياتِها النِّسبيَّةِ الظاهِرةِ .
ثَابتَةُ العَينِ مُتنَوِعةُ التَّجلِّياتِ .
لَقد رَأينَا أنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ هوَ الحَقِيقةُ الأُولَى والنَّهَائِيَّةُ لِلوجُودِ، وَ هيَ الحَقِيقةُ الأسَاسيَّةُ والجَوهرِيَّةُ لِلخَلِيقةِ :
إنَّها جَامِعةٌ الوجُودَ .
هذَا مَا يَكشِفُ لَنا أنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ لَه وَجهَان بِحيَاتهِ الأسَاسيَّةِ؛ وَجهٌ مُطلَقٌ والآخَرُ نِسبيٌّ .
مَعَ بَقاءِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ دَائماً في حَالَةِ المُطلَقِ جَامِعِ الوجُودِ، وهذَا مَا نَجِدُه أيضَاً في النَّواحِي المتغيرة دوماً في الوجُودِ الظاهِريِّ والخَلِيقةِ النِّسبِيَّةِ .
إنَّ فَلَكَ الحَياةِ بِأكمَلِهِ مِنَ الفردِ إلى الكَونِ هوَ التَّعبِيرُعَنْ مَكنُونِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ الأبدِيِّ، الإطلَاقِ الثَّابِتِ غَيرِ المُتغيِّرِ، وجَامعِ الوجُودِ في النِّسبِيَّاتِ الدَّائِم تغيرها لِمَعلومَاتِ الكُنْهِ ثابتة الوجُودِ فِيهِ .
يَا وَلِييِّ في اللهِ تعَالى سَوفَ أُوَضِّحُ بِأحَدِ تجلِّياتِ الكُنْهِ مَا يُوَضِّحُ حَقِيقةَ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ؛ فإنَّ التَّجلِّيَ إنَّمَا هوَ حَقِيقةٌ في المُتَجلِّي فَافهَمْ .
وانتَبِه إلى أنَّ هذَا المِثالَ وإنْ كانَ لايَصِحُّ في كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ على الحَقِيقةِ؛ إلَّا أنَّنِي أضرِبُه لَكَ مِنْ كَونِه نَابِعٌ عَنها، فهوَ مِنْ تَجلِّيها فَانتَبِه تَرشُدْ .
إنَّ ذَرَّاتِ الأوكسجِين والهِيدرُوجين في مَرحَلَةٍ مُعيَّنةٍ لَهُما خَصائِصُ الغازِ، وفي مَرحلةٍ ثَانيةٍ مَعَ اندِمَاجِهما يُظهِرَان خَصائِصَ المَاءِ، وأيضَاً في مَرحلةٍ أُخرَى يُظهِرَان خَصائِصَ الجَلِيدِ؛ إنَّ المُحتوَى الأسَاسيَّ لِكُلٍّ مِنَ الغازِ والمَاءِ والجَلِيدِ هوَ ذَاتُه، لَكِنَّ خَصائِصَهُ تَتغيَّرُ .
بِالرَّغمِ مِنْ أنَّ خَصائِصَ الغازِ والمَاءِ والجَلِيدِ مُختلِفةٌ فيمَا بَينَها، إلَّا أنَّ العُنصُرَ المُكوِّنَ لَهَا، الأوكسجِين والهِيدروجِين، هوَ ذَاتُه دائماً .
وكذَا البِناءُ مِنْ نَواةٍ وإلكترُونٍ يَطوفُ حَولَها .
كَمَا يَبقَى الأوكسجِينُ والهِيدروجينُ في حَالَتِهما التِي لا تَتغيَّرُ، ويَظهَرانِ بِخَصائِصَ مُختلِفةٍ، كَذلكَ يَبقَى كُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ بِصفاتِهِ المُطلَقةِ والأبَديَّةِ التِي لا تَتغيَّرُ ثابِتاً؛ وفي الوَقتِ ذَاتِهِ نَجِدُ حَياتَه تُعبِّرُعَنْ مَكنُونِ ذاتِها بِالأشكَالِ والظوَاهِرِالمُختلِفَةِ لِلخَلِيقةِ المُتنَوِّعَةِ؛ مَعَ الفَارِقِ بَينَ التَّجلِّي والمُتَجلِّي، فإنَّ الغازَ يَزُولُ رَغمَ أسَاسِيَّتِه في ظُهورِالمَاءِ والجَلِيدِ، وكُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ بَاقٍ لا يَزُولُ، وللهِ المَثلُ الأعلَى .
( من كتاب الهوية للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .