قَوْلُ الأكبَريِّ قدّسَ اللهُ سِرَّهُ
بأيّ شيءٍ حَازُوا العَسَاكِر
قال الأكْبَريّ :
( فإنْ قيل إنّ الذين حَازُوا العَسَاكِر بأيّ شيءٍ حازوا ، فلنقلْ في الجواب ، نذكر أولاً ما معنى العَسَاكِر ، و ما معنى حيازتهم لهم ، ثم نبيّن بأيّ شيءٍ حازوا ، فإنّ هذا السائل إذا أرسل سؤاله مِنْ غير تقييد لفظيّ أو قرينةِ حالٍ ، ينبغي للمُجِيب أنْ يُجِيب بالمعاني التي تدلّ عليها تلك الكلمة في اصطلاحهم ، فمهما أَخَلّ بشيءٍ مِنْها فما وفّى الكلمة حَقّها ، فاعلم أنّ العَسَاكِر قد يُطْلِقُونها و يريدون بها شدائد الأعمال و العزائم و المُجاهَدَات ، كما قال القائل ” ظَلَّ في عَسْكَرَةٍ مِنْ حبها “ أي في شِدّة ، و اعلم أنّ مَبْنَى هذا الطريق على التَخَلّق بأسماء الله فحاز هؤلاء العَسَاكِر بالتَخَلّق باسمه المَلِك ، فإنّ المَلِك هو الذي يوصف بأنّه يحُوز العَسَاكِر ، و المَلِك معناه الشديد ، فلا تُحَاز الشدائد و العزائم إلا بما هو أشدّ مِنْها ، يقال ” مَلَكْتُ العَجين “ إذا شددت عجنه .. فحازوا العَسَاكِر بالطريقتين باسمه المَلِك ) [1] .
قال الباحِث : فما الشدائد التي حازوها في هذا الباب ؟
قال عَرِّيف وادي التّعريف مِنْ عوالِم الأكبَريّ :
( فأمّا الشدائد التي حازوها في هذا الباب فهي البَرَازِخ التي أوقفهم الحَقّ في حَضْرة الأفعال مِنْ نسبتها إلى الله تعالى و نسبتها إلى أنْفُسِهم ، فيلوح لهم ما لا يتمكن لهم معه أنْ ينسبوها إلى أنْفُسِهم ، و يلوح لهم ما لا يتمكن لهم معه أنْ ينسبوها إلى الله تعالى ، فهم هالكون بين حقيقةٍ و أدبٍ ، و التخليص من هذا البرزخ من أشد ما يُقاسِيه العَارِفُون ، فإنّ الذي ينزل عن هذا المَقَام يشاهدُ أحَدَ الطرفين فيكون مُسْتَرِيحاً لعدم المَعَارِض ) [2] .
فأستأنف الأكبَريّ قال : ( و اعلم أنّ صاحب هذا المَقَام هو الذي أَعْلَمَهُ الله بجنوده الذي لا يعلمها إلا هو قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } و قال : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } ، و صاحب هذا المَقام يَعْرِفُهُ جنود الله الذين لا حَاكِم عليهم في شغلهم إلا الله تعالى ، و لهذا نسبهم إليه فهم الغَالِبون الذين لا يُغلَبون ، فمِنْهم الريح العقيم، و مِنْهم الطير التي أُرسِلَتْ على أصحاب الفيل ، و كلّ جندٍ ليس لمخلوقٍ فيه تصريف هم العَسَاكِر التي حازها صاحب هذا المَقام عِلْمَاً .. فإذا منح الله صاحب هذا المَقَام عِلْم هؤلاء العَسَاكِر ، رمى بالحصى في وجوه الأعداء فانهزموا كما رمى رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم في غزوة حُنَيْن ، فله الرمي ، و هم لا يكون مِنْهم غلبةٌ إلا بأمر الله و لهذا قال : ” وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ” .
فَكُلُّ مَنْصُورٍ بجند الله فهو دليل على عناية الله به ، و لا يكون منصوراً بهم على الاختصاص إلا بتعريفٍ إلهيٍّ، فإنْ نصره الله تعالى من غير تعريف إلهيّ فليس هو من هذه الطبقة التي حازت العَسَاكِر ، فلا بُدّ مِنْ اشتراط النصر حقاًّ في ذلك القصد ، و صاحب هذا المَقام يُعَيِّنُ لأصحابه مَصَارِعَ القوم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم في غزوة بدر ، فإنّه ما مِنْ شخصٍ من أجناد الله إلا وهو يعرف عين مَنْ سُلِّطَ عليه ، و متى يُسَلَّطُ عليه ، و أينَ يُسَلَّطُ عليه ، فتتشخص الأجناد لصاحب هذا المَقام في الأماكن التي هي مَصَارِع القوم، كلّ شخص على صورة المقتول و باسمه ، فيراه صاحب هذا المَقَام فيقَوْل هذا هو مَصْرَع فلان ، و هذا هو مَقَام الإمام الواحد مِنَ الإمَامَيْن ، و أقرب شيءٍ يَنَال به هذا المَقَام البُغْضُ في الله تعالى و الحُبُّ في الله تعالى ، فتكون هِمَمُ هذه الطبقة و أنْفَاسَهم مِنْ جُملَة العَسَاكِر التي حازوها بما ذكرناه ، و هو الموالاة في الله و العداوة في الله عن عزمٍ و صِدقٍ ، مع كونهم لا يرون إلا الله تعالى ، فيجدون مِنَ الانضغاط و كَظْم الغَيْظ ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، و العَيْن تحرسهم في بَاطِنهم هل ينظرون في ذلك أنّه غير الله تعالى ؟! ، فإذا تحقّقوا ذلك حازوا العَسَاكِر الحَقّ التي هي أسماؤه سبحانه ، إذ أسماؤه تعالى عَسَاكِره ، و هي التي يُسَلّطها على مَنْ يشاء و يرحم بها مَنْ يشاء ، فمَنْ حاز الأسماءَ فقد حاز العَسَاكِر الإلهيّة ، و رئيس هؤلاء الأجْنَاد الأسمائيّة كما قلنا الاسم المَلِك ، هو المُهَيمِن عليها ، و مَنْ عَدَاه فأمثالُ السَّدَنَة له ، و يكفي هذا القدر في الجواب عن هذا السؤال .
قال المَلِك العَبْد : ما يقَوْل سُلْطَان التّلْخِيص ؟
قال : لخّصتُ في فكرة السؤال ما يساوي عدد البُرُوج .
قال المَلِك العَبْد : ما يقَوْل سُلْطَان التّلْخِيص عن ما وجده سُلْطَان التّلْخِيص ؟
قال : عين الإظهار في أكْبِرِيّة الأفكار ، أنّه تكلم في الحيازة عن معنى العساكر بين الشِدّة و الامتلاك ، و معنى الحِيَازة ، و مَبْنَى الطريق للسَادَة ، و الشدائد المُحَاَزة ، و كَوْنُها بَرْزَخِيّة ، و أَلَمُ قَسْوَةِ هذا المَقَام ، و جنود المَلِك فيما قام ، و دليل العناية ، مع اشتراط التّعريف في آنِ التّصريف ، و تَشَخُّص الأجْنَاد بصورة الضحايا ، و مَقام الإمام الواحد ، و بما يُنَال المَقَام ، هذا تلخيص ما حازه في سؤال الحيازة .
قال المَلِك العَبْد : و ما تجد مِنْ المُجَدّدِيّ يا سُلْطَان التّلْخِيص ؟
قال : لَخّصَ المُجَدّدِيّ في فكرة السؤال ما يساوي عدد منازِل الرّمْز في البَسْمَلَة .
قال المَلِك العَبْد : و ما يقَوْل سُلْطَان التّلْخِيص عن ما وجده سُلْطَان التّلْخِيص ؟
قال : عين الإظهار في مُجَدّدِيّة الأفكار ، أنّه تكلّم عن كَوْن أهل القُرْبَة هم المتَخَلِّقون مِنْ كَوْنِهم ملوكاً و كَوْنِهم مَمْلُوكِين لله تعالى ، و منازل تباركٍ في المُلْك ، و إثبات المُلْكِيّة للواحد في عَيْن الجمعيّة و الفعل للأحديّة ، و إشارة إلى القدرة كأساس للشدّة و الامتلاك ، و كَوْن الحِيَازة قُدْرَوِيَةٌ ، و كَوْنِها بالله ، و الحِيَازة الجزئيّة لأهل القُرْبَة مِنْ إمداد أحد الإمَامَيْن و انجبارها لهم جَبْر إحْسَان ، و كَوْن الحِيَازة بين الإرادة مِنْ اسمه المُرِيد و الوَليّ و الوَالي و الجَبَّار ، و عن قوّة المَلِك الحِسِّيّة و المَعْنَويّة ، و اشتراط حِيَازة الحِسّ و المعنى لأهل القُرْبَة ، و عن المُلْك و الحُكْم و ترك الحُكْم في العُبُودَة و الأخذ به في العُبُودِيّة ، و التّعريف بهم ، و كَوْن الحِيَازة مرتبطة بمنزل ” و لولا دفعُ اللهِ النّاسَ ” ، و الكلام في نِسْبَة كَاف الاسم المَلِك ، و انبساط الحِيَازة على ثلاثةِ عوالمٍ ، و تبعيّة الحِيَازة للاستعداد ، و الإشارة إلى الشكل الحِيَازيّ ، هذا تخليص ما حازه المُجَدّدِيّ في السؤال عن الحِيَازة .
قال المَلِك العَبْد : هذا التخليص بعد التلخيص ، و إليكم بسط المُجْمَل في التخليص ، فباسمه المَلِك حَازُوا العَسَاكِر و ما ذلك إلا مِنْ كَوْن أهل القُرْبَة متخَلِّقون بهذا الاسم الإلهيّ، فهم ملوكٌ ، و الله مَلِكُ الملوكِ ، و هو قَوْله تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [3] .
فأثبت لنفسه تعالى الملكيّة ، و فاصلة الآية تفيد القُدْرَة فكانتْ الحِيَازة قُدْرَويّة ، و القدرة المُطْلَقة هي القدرة الإلهيّة القديمة ، فالملوك الذين حَازُوا حَازُوا بالله ، فلا حَوْل و لا قوّة لهم إنّما الحَوْل و القوّة لله و بالله المَلِك القادر ، و مِنْ كَوْنِهم وُلاة المَمْلَكَة و هم أولياء الوَالي ، فكانتْ جند الله جنودهم بحُكْم التبعيّة فيهم ، و هي مَجبُورة لهم جَبْر إحْسَان لا جَبْر قَهْر ، و له مُلْك السموات و الأرض ، و اسمه الوَالي ، فهو يُوَلِّي على قطاعات مَمْلَكَته مَنْ يشاء مِنْ عباده بالاختصاص الإلهيّ ، فللاسم ” المَلِك “ قوّتان ، قوّة حِسّيّة و قوّة معنويّة ، و الحِيَازة العسكرية لأهل القُرْبَة لا تكون إلا بالحِسّ و المعنى، و يمكن أنْ تكون بالمعنى فقط ، و لا يمكن أنْ تكون حِسّاً فقط لأهل القُرْبَة ، و يمكن أنْ تكون لغيرهم، فتفطّن لِمَا صرّحنا به .
و مِنَ الملوك مَنْ يَمْلُك و يَحْكُم ، و مِنْهم مَنْ يَمْلُك و لا يَحْكُم ، و كذلك أهل القُرْبَة ، فمِنْهم مَنْ ترك الحُكْم للحكيم ، و الحُكْمُ حُكْمُ العُبُودَة عليه ، و مِنْهم مَنْ انحط مَقَامه عن ذلك فكان في العُبُودِيّة فَمَلَكَ و حَكَمَ و الحُكْمُ حُكْمُ العُبُودِيّة ، و كلاهما مِنْ أهل القُرْبَة ، إلا أنّ الصنف الأوّل أَعْرَفُ ، و هم مِنَ الملاماتيّة .
و اعلم يا وليّي في الله أنّ أهل القُرْبَة مِنَ الصنف الثاني الذي يَمْلُكُ و يَحْكُمُ و إنْ حكموا فذلك بأمرٍ إلهيٍّ ، و لولا دفع النّاس بعضهم ببعضٍ لفسدتْ الأرض .
ذَوْقٌ مُجَدّدِيٌّ آخر اسمه حِيْزَ حَازَ :
المَلِك اسمٌ جميلٌ و جليلٌ مِنْ أسمائه تعالى ، مَنْ نظر إلى أنّ الكَافَ كافُ التّكوين حَاز ، و مَنْ نظر إلى أنّ الكَافَ كافُ المُلْكِ حِيزَ ، فانظرْ يا وليّي في الله تعالى وِجْهَة نظرك و مَيْل بصيرتك تعرِفْ حيازَتك و تكشف قَدْرَك .
ذَوْقٌ آخر : { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } .
ذَوْقٌ آخر : المَلِك اسمٌ جليلٌ مِنْ أسمائه تعالى الحُسْنَى ، و هو في ثلاثة عوالِم، هي عوالِم الحِيَازَة المُلْكِيّة و هذه موزّعة على تسعين رُوحاً عند أهل الأنْوَار ، و على مائةٍ و واحدٍ و عشرين عند العارِفِين مِنْهم ، ففرّقْ بين الحِيَازَتين لتدْرِكْ أنّ حِيَازة العَسَاكِر استعداداتٌ و نِسْبَةٌ معاييرها خامة الوَلِيّ نَفْسه .
ذَوْقٌ آخر : حِيَازة العَسَاكِر لها أشكالٌ و قوانينَ و أبعادٌ و مَطَالِعٌ و معارجٌ و مَدَارِجٌ و مَنَازِلٌ في عوالِمها ، إلا أنّني أكشفُ عن بعض أشكال الحِيَازة ، فمِنْهم – الحَائِزون – مَنْ يعلَم ما يَحوز على سبيل التّفصِيل .. و مِنْهم مَنْ يَحوز ما لا يعلَمه على سبيل التّفصِيل ، و مِنْهم مَنْ يَحوز بالإطْلَاق فلا يعرِف ما تحت سُلْطَانِه و إنّما يفعل بالتقييد الحالي في المُنَاجَاة فتتحرّك العَسَاكِر بتقيّدهم ذاك بتقدير إلهيّ ، و مِنْهم مَنْ حرك العَسَاكِر برغبةٍ مِنْه ، و مِنْهم مَنْ حرك لا برغبةٍ مِنْه ، و الحَمْدُ لله رَبّ العَالَمِين .