عَلَاقَةُ الْإدْرَاكِ بِالْفَاعِلِيَّةِ
إنَّ الْإدْرَاكَ وَالْفَاعِلِيَّةَ يَترَابَطَانِ مَعَ بَعْضِهِمَا الْبَعْضِ فِي كُنْهِ الْحَيَاةِ ، فَإنَّ كَثِيْرَاً مِنَ الْأمُورِ وَالْمَعَانِي تَتَعَلَّقُ فِيْمَا بَيْنهَا بِأُمُورٍ أوْ تَفْتَرِقُ فِيْمَا بَيْنِهَا بِأُمُورٍ أُخْرَى إلَّا أنَّ كُنْهَ الْحَيَاةِ لَمْ يَرْبِطْ فِي تَوَهُّجِ الرُّوحِ سِوَى الْإدْرَاكَ مَعَ الْفَاعِلِيَّةِ ، بَيْنَمَا رَبَطَ كُلَّ بَاقِي الْمَعَانِي بِنَاءً عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَالْإدْرَاكِ .
إذَاً : الْفَاعِلِيَّةُ وَالْإدْرَاكُ هُمَا خَصِيْصَتَانِ مِنْ خَصَائِصِ الْحَيَاةِ ، وَإنَّ فِي ارْتِبَاطِ الْفَاعِلِيَّةِ مَعَ الْإدْرَاكِ مُعْجِزَةٌ رُوحِيَّةٌ فِي عَالَمِ الْحَيَاةِ فَلَا يَسْتَطِيْعُ أنْ يَفْهَمَ الْحَيَاةَ مَنْ لَا يَفْهَمُ حَقِيْقَةَ الْإدْرَاكِ وَارْتِبَاطِهِ بِالْفَاعِلِيَّةِ ، فَالْإدْرَاكُ بِلَا الْفَاعِلِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ حَيَاةً ، فَالْحَيَاةُ إدْرَاكٌ فَاعِلٌ وَفَاعِلِيَّةٌ دَرَّاكَةٌ ، فَلَا يَصِحُّ أحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ .
فَأنْ تُدْرِكَ وَلَاتَفْعَلُ فَقَدْ ظَهَرْتَ بِعِلْمٍ ، وَأنْ تَفْعَلَ بِلَا إدْرَاكٍ فَأنْتَ هُنَا مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَالْقُدْرَةُ تَحْتَاجُ لِضَبْطِ الْعِلْمِ حَتَّى لَا تَكُونَ عَشْوَائِيَّةً وَتُدَمِّرُ ذَاتَهَا بِذَاتِها ، وَالْعِلْمُ يَحْتَاجُ إلَى الْقُدْرَةِ لِتَنْفِيْذِ مَايُعْلَمُ ، فَاحْتَاجَتِ الْقُدْرَةُ لِضَوَابِطِ الْعِلْمِ لِتَسْتَقِيْمَ ، فَالْإدْرَاكُ بِالْعَلِيْمِ وَالْفَاعِلِيَّةُ مِنَ الْقُدْرِةِ مَعَ بَعْضِهِمَا يُشَكِّلَانِ رَقَائِقَ نُورِ الْحَيَاةِ .
هَذَا بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ مِنْ أدْنَى إلَى أعْلَى وَفِيْهِ مُشَاهَدَةُ تَرَاكُبِ الْحَيَاةِ .
أمَّا بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ مِنَ الْأعْلَى إلَى الْأسْفَلِ فَإنَّ الْحَيَاةَ هِيَ عَيْنُ رَقَائِقِ نُورِ اسْمِهِ الْعَلِيْمِ مَضْفُورٌ بِهَا نُورُ اسْمِهِ الْقَادِرِ .
أمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّظَرِ إلَى الْحَقِيْقة فَإنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إنَّمَا هُمَا مِنْ تَجَلِّيَاتِ الْحَيَاةِ وَلَوْلَا أّنَّ الْحَيَاةَ تَكْتَنِزُهُمَا بِذَاتِيَّتِهَا مَا خَرَجَا عَنْهَا بِالتَّفْصِيْلِ .
وَالْجَدِيْرُ بِالْفَهْمِ هُنَا أنَّ الْفَاعِلِيَّةَ وَ الْإدْرَاكَ فِي كُنْهِ الْحَيَاةِ لَا يُمْكِنُ تَعَقُّلُهُمَا مُنْفَصِلَيْنِ عَنْ بَعْضِهِمَا الْبَعْضِ إلَّا بِالتَّعَقُّلِ الذِّهْنِيِّ عِنْدَ الْبَشَرِ ، أمَّا فِي الْوُجُودِ التَّحْقِيْقِيِّ فَهُمَا خَصِيْصَتَانِ ؛ فَإدْرَاكُ فَاعِلِيَّةِ الْإدْرَاكِ وَفَاعِلِيَّةُ إدْرَاكِ الْفَاعِلِيَّةِ لَيْسَتَا عَمَلِيَّتَيْنِ فِي الْوَاقِعِ الْوُجُودِيِّ لِلْحَيَاةِ بَلْ هُمَا عَمَلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمُعَادَلَةٌ وَاحِدَةٌ تُشَكِّلُ وَمْضَةً حَيَاتِيَّةً وَاحِدَةً وَمَا اسْتِمْرَارُ الْحَيَاةِ إلَّا اسْتِمْرَارُ هَذَا الْوَمْضِ الْحَيَاتِيِّ فَإذَا بِالْحَيَاةِ نَابِضَةً بِوُجُودِهَا ، وَاسْتِمْرَارُ النَّبْضِ إنَّمَا هُوَ اسْتِمْرَارُ وَمْضِ الْحَيَاةِ أيِ اسْتِمْرَارُ إدْرَاكِ فَاعِلِيَّةِ الْإدْرَاكِ فِي عَيْنِ فَاعِلِيَّةِ إدْرَاكِ الْفَاعِلِيَّةِ .
( نقلاً عن كتاب علم الذكاء الروحي للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .