عَلَامَةُ اللِّقَاءِ الْخَضِرِيِّ الْمُوسَوِيِّ وَمَعَارِفُ تَأوِيْلِيَّةٌ
لَقَدْ صَحِبَ سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي رِحْلَتِهِ إلَى لِقَاءِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيُّ اللهِ تَعَالَى يُوشَعُ بِن نُون ، وَكَانَ لَابُدَّ لِسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنْ يَصْحَبَهُ مَعَهُ فَقَط إلَى حِيْنَ يَلْقَى الْخَضِرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وذلك لِأنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَالِمَاً بِأنَّ مَكَانَ نِسْيَانِ الْحُوتِ سَيَجِدُ الْخَضِرَ ، مِمَّا جَعَلَهُ مُرَكِّزَاً وَمُتَّقِدَ الذِّهْنِ تَمَامَاً عَلَى زَوَّادَتِهِ ، وَهَذَا أمْرٌ لَا يَسْمَحُ لَهُ بِنِسْيَانِ الْحُوتِ أبَدَاً وَخُصُوصَاً أنَّهُ مِنْ أُولِي الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَأُولِي الْعَزْمِ ، فَفِي رِفْقَةِ يُوشَع عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ بِضَيَاعِ الزَّوَّادَةِ وَنِسْيَانِ الطَّعَامِ مِمَّا يَجْعَلُ الْأمْرَ أسْهَلَ بِكَثِيْرٍ عَلَى الْوَعْيِ الْيُوشَعِيِّ .. بَلْ وَيَجْعَلُ وَضْعَ النَّسْيَانِ عِنْدَمَا يَحْدُثُ أمْرَاً طَبِيْعِيَّاً جِدَّاً بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا .. مِمَّا يُمَهِّدُ لِتَكُونَ الْمَسْألَةُ خَارِجَةً مِنْ يَدِهِمَا لِتَكُونَ بِصُنْعَةٍ إلَهِيَّةٍ مَحْضَةٍ .
وَلَعَلِّي أضِيْفُ هُنَا حِكْمَةً إلَهِيَّةً فِي جَعْلِ عَلَامَةِ اللِّقَاءِ هِيَ عَودَةُ الْحُوتِ إلَى الْحَيَاةِ ، فَإنَّ رُمُوزَ الْوَقَائِعِ فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ تَرتَبِطُ بِبَعْضِهَا بِلُحْمَةٍ رُوحِيَّةٍ خَاصَّةٍ بَالْوَاقِعَةِ ، وَهُنَا عِندَمَا كَانَتِ الْقِصَّةُ تَشْرَحُ الأحْكَامَ التَّشْرِيْعِيَّةَ التَّحْقِيْقِيَّةَ وَخُصُوصَاً عِلْمَ التَّأوِيْلِ ، جَاءَ مِنْهَا الرَّمْزُ الْحُوتِيُّ وَالنِّسْيَانُ وَالْحَيَاةُ وَرُجُوعٌ إلَى الْبَحْرِ مُوَافِقٌ لِحَقَائِقَ كَانَ عَلَيْهَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَالْحُوتُ هُوَ الْحَيَوَانُ الْوَحِيْدُ الْمُسَمَّى بِاسْمٍ يُسْتَعْمَلُ أيْضَاً لِلدَّلَالَةِ عَلَى احْتِوَاءِ الْعِلْمِ .. فَنَاسَبَ تَأوِيْلَاً أنْ يَكُونَ الْحُوتُ السَّابِحُ مُنَاسِبَاً لِحَضْرَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعِلْمِيَّةِ فِي حُوتِ عِلْمٍ ، وَالنِّسْيَانُ مُنَاسِبَاً لِغَفْلَةِ النَّفْسِ عَنِ التَّحْقِيْقِ ، وَكَذَلِكَ عَوْدَةُ الْحَيَاةِ فِيْ الْحُوتِ مُنَاسِبَةً لِتَحَقُّقِ الْعَالِمِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْحَيَاةِ الْحَقِيْقِيَّةِ وَكَيْفَ أنَّ الْخَضِرَ أحْيَا عِلْمَ مُوسَى بِالْحَقَائِقِ الْعَمَلِيَّةِ ، فَجَمَعَ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِلْمَ الشَّرِيْعَةِ التَّكْلِيْفِيَّةِ وَعِلْمَ التَّشْرِيْعِ التَّحْقِيْقِيِّ ، فَنَاسَبَ أنْ يَكُونَ اللِّقَاءُ فِي مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ أيْضَاً : بَحْرِ الْعِلْمِ وَالتَّشْرِيْعِ التَّكْلِيْفِيِّ ، وَبَحْرِ الْوِلَايَةِ وَ التَّشْرِيْعِ التَّحْقِيْقِيِّ .
وَهُنَاكَ الْكَثِيْرُ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ فِي السُّورَةِ بِشَكْلٍ عَامٍّ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا عَلَّمَهُ الْحَقُّ لِعُلَمَاءِ التَّأوِيْلِ فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ .
( من كتاب علم الحقائق البرزخية بين الحضرتين الموسوية والخضرية للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب ) .