رسالة في الإشفاق – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

( رِسَالَةٌ فِي الإشِفَاقِ )

مِنَ العَبْدِ الفَقِيْرِ إلَى رَبِّهِ تَعَالَى هَانِيْبَالْ يُوسُفْ حَرْبْ إلَى (………)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ

وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى  سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ وَبَعْدُ :

 

اعْلَمْ يَا وَلِيِّي فِي اللهِ تَعَالَى أنَّ مِن أسْرَارِ ( عِلْمِ الإشْفَاقِ ) فِي القُرْءَانِ الكَرِيمِ ، فِي قَوْلِ حَبِيْبي عَزَّ وَ جَلَّ :

{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً  .. {49} الكهف ، أنَّ حَالَ المُجْرِمِينَ إنَّمَا هُوَ الإشْفاقُ عَلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَ أُتْبِعَ هَذَا الوَصْفُ لِحَالِهِمْ بِوَصْفِ الكِتَابِ نَفسِهِ بِأنَّهُ لَمْ يُغَادِرْ ذَنْبَاً كَبِيْرَاً أوْ صَغِيْرَاً إلَّا وَ قَدْ أُحْصِيَ فِيْهِ ، هَذَا الرَّبْطُ بَيْنَ وَصْفَي المُجْرِمِيْنَ المُشْفِقِيْنَ وَ كِتَابِهِمُ المُحْصَى فِيْهِ كُلُّ الذُّنُوبِ صَغِيْرهَا وَ كَبِيْرهَا يَقُودُنَا لِمَعْرِفَةِ سِرِّ الاسْمِ الإلَهِيِّ المُتَجَلِّي عَلَى (( عَالَمِ الإشْفَاقِ )) ألَا وَ هُوَ (( اسْمُ اللهِ المُحْصِي )) ، فَالإشْفَاقُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الإحْصَاءِ .

وَمِثَالُهُ أنَّنِي لا أشْفِقُ عَلَى المَرِيْضِ إلَّا بَعْدَ أنْ أُحْصِيَ عَلَيْهِ آلَامَهُ فَأنتَقِلُ مِنَ الإحْصَاءِ الجَسَدَيِّ لِلآلَامِ إلَى الإشْفَاقِ الرُّوحِيِّ عَلَيْهِ .

وَ لُوحِظَ بِالتَّجْرِبَةِ العَمَلِيَّةِ وَ المُرَاقَبَةِ أنَّ طَاقَةَ الإشْفَاقِ تكُونُ بِأقْوَى أشْكَالِهَا عِنْدَ الإحْصَاءِ الأوَّلِ .

مِثَالُهُ : شَخْصٌ يُحَاوِلُ إثَارَةَ الشَّفَقَةِ تِجَاهَ حَالٍ مُعَيَّنٍ لَدَيْهِ بِأنْ يُحْصِيَ لَكَ مُعَانَاتِهِ فَإنَّهُ يَنجَحُ فِي المَرَّةِ الأُولَى لَكِنَّ تِكْرَارَهُ لِهَذَا الإحْصَاءِ يُنَبِّهُ البَرْنَامَجَ الرُّوحِيَّ لَدَى الشَّخْصِ الآخَرِ بِأنَّ هَذَا الفِعْلَ مُزَيَّفٌ ! ، هَذَا التَّكْتِيْكُ هُوَ ( مُسْتَجْلِبُ طَاقَةٍ سَلْبِيٍّ وَ آنِيٍّ ) وَ تِكْرَارُهُ يُؤذِي صَاحِبَهُ عَلَى المَدَى البَعِيْدِ ،لِذَا كَانَ التَّنْبِيْهُ المُحَمَّدِيُّ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ حِيْنَ أرْسَلَهُ إلَى اليَمَنِ فَوَصَّاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ وَ عَلَى آلِهِ وَ صَحْبِهِ قَائِلَاً : ( فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أمْوَالِ النَّاسِ ) فَنَهَاهُ عَن أخذِ أكْرَمِ مَا لَدَى الشَّخْصِ مِنْ أمْوَالٍ لِأنَّ هَذَا الْمَالَ تَعَلَّقَتْ فِيْهِ الطَّاقَةُ الذَّاتِيَّةُ لِلشَّخْصِ وَلَبِسَ رُوحَ الإشْفَاقِ ، لِذَا لَا يُؤخَذُ أحَبُّ وَ أفْضَلُ المَالِ وَ المُلْكِ وَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مَا دُونَهُ حَتَّى يَخْلُوَ مِن هَذِهِ الطَّاقَةِ السَّلْبِيَّةِ .

وَ لَنَا هُنَا رَبْطٌ بَدِيْعٌ مَعَ عِلْمِ مَنَازِلِ القَمَرِ الَّذِي شَرَّفَنَا اللهُ تَعَالَى بِتَلَقُّنِهِ مِن شَيْخِنَا هَانِيْبَالَ يُوسُفْ حَرْبْ أجَلَّهُ اللهُ تَعَالَى .

فَفِي عِلْمِ مَنَازِلِ القَمَرِ وَجَدْنَا أنَّ سَمَاءَ سَيِّدِنَا عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ الَّتِيْ هِيَ السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ صُعُودَاً يُشْرِفُ عَلَيْهَا اسْمُ اللهِ المُحْصِي ، وَعَلِمْنَا أنَّ اسْمَ اللهِ المُحْصِيْ يُشْرِفُ عَلَى عَالَمِ الإشْفَاقِ كَذَلِكَ ، فَإذَا تَابَعْنَا حَيَاةَ عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوَجَدْنَا أنَّ أوَّلَ مَا نَطَقَ بِهِ عِيْسَى الطِّفلُ هُوَ قَولُهُ لِأُمِّهِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ ( أَلَّا تَحْزَنِي ) { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا {24} مريم ، فَكَانَ أوَّلُ مَا ظهور مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ ظُهُورٌ مِن عَالَمِ الإشْفَاقِ، وَ حَتَّى أنَّ حَقِيْقَةَ حَيَاةِ عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلّهَا تَدُورُ حَوْلَ اسْمِ اللهِ المُحْصِي وَ عَوَالِمِ الإشْفَاقِ فَكَانَتْ وَصَايَاهُ دَائِمَاً ( أحِبُّوا مُبْغِضِيْكُمْ ) وَ ( تَعَالَوا إلَيَّ أيُّهَا الْمُتْعَبُونَ ) وَغَيْرهَا مِنْ تَجَلِّيَاتِ عَالَمِ الإشْفَاقِ، فَمَا نَطَقَ إلَّا بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ رُوحِ الإشْفَاقِ عَلَى آلَامِ الْبَشَرِ .

وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا سِرَّاً هَامَّاً فِي عَالَمِ الإشْفَاقِ وَ هُوَ ارْتِبَاطُ رُوحِ الإشْفَاقِ بِالشِّفَاءِ ، حَيْثُ وَجَدْنَا مُعْجِزَةَ عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الشَّفَائِيَّةَ عَلَى ارْتِبَاطٍ وَثِيْقٍ بِطَاقَةِ وَ رُوحِ الإشْفَاقِ العَالِيَةِ الَّتِي كَانَت لَدَيْهِ ، وَ مِنْهُ كَانَ مِن أسْرَارِ الشِّفَاءِ أنَّهُ : (( كُلَّمَا كَانَ الْمُعَالِجُ أكْثَرَ إشْفَاقَاً وَ رَحْمَةً كُلَّمَا كَانَتْ قُوَّتُهُ الشِّفَائِيَّةُ أكْبَر )) .

بَارَكَ اللهُ بِكَ  وَجَعَلَكَ  مِمَّنْ أشْفَقُوا  بِشِفَاهِم الله تعالى وَشَفُوا بِإذْنِهِ .

وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ

 


( من كتاب‏‏ الكتب الخيرة للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب  ) .


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى