حريَّةُ الشعوبِ
قُلنا سَابقاً :
البسملةُ حاكمةٌ على كلِّ منظوماتِ الوعيِ في الوجودِ الكونيِّ .
و فيها مكنوناتُ علومِ الحرِّيَّةِ ومخزوناتُ الفهمِ الخاصِّ بالحرِّيَّةِ .
فهي إعلانُ حرِّيَّةٍ كاملٌ .
هي مفتاحُ التوحيدِ ، فإذا تحرَّرتَ من الكائناتِ كلِّها فإنكَ بدأتَ في مسيرِكَ نحو توحيدِ الخالقِ فتأتي بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ لتتوِّجَ هذا السلوكَ .
فبِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ ، هي تاجُ الحرِّيَّةِ وهي تاجُ كلِّ الحرِّيَّاتِ في كوكبِنا وفي مجموعتِنا الشمسيةِ و في كل المجرَّاتِ و السمواتِ و في كلِّ الوجودِ من العرشِ إلى الفرشِ .
و تحدَّثنا أيضاً كيفَ أنَّ الحرِّيَّةَ التي في بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ وهذه الألفاظُ وهذا الرسمُ بالذاتِ رسمُ كلمةِ اسمِ اللهِ ، رسمُ كلمةِ الرحمنِ ، رسمُ كلمةِ الرحيمِ ، فيها مكنوناتُ حريةٍ عاليةٍ جداً جداً جداً . ونستحقُ أن ندخلَ بدقائقِها وأسرارِها وخصوصاً أنَّ عالَمَنا اليومَ بحاجةِ هذهِ الحرِّيَّةِ الحقيقيةِ .
الكوكبُ اليومَ يعيشُ مظاهرَ غريبةً مضادةً للحرِّيَّةِ الحقيقيةِ التي هي حريةُ التوحيدِ .
و رأينا كيف أنَّ الحريةَ الحقيقيةَ سبيلٌ إلى رضا اللهِ سبحانهُ و تعالى عندما تكونُ بِلونِ التوحيدِ وتكونُ بِلونِ البسملةِ .
عندها أنت تعيشُ حرِّيتَكَ .. حرِّيَّةَ بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ، عندها تعيشُ حرِّيَّةَ التوحيدِ الإلهيِّ ، عندها تعيش حرِّيَّتَكَ عن الأكوانِ جميعِها .
دَعونا نراقبُ المسألةَ التاليةَ :
كيفَ أنَّ البسملةَ بهذه الحرِّيَّةِ حرَّرتِ الشعوبَ كلَّها عَبرَ الحضاراتِ الإنسانيةِ و عَبرَ المدنياتِ و عَبرَ كلِّ القصصِ في الأديانِ السابقةِ ، في الإنجيلِ ، في التوراةِ ، وحتى في القرءَانِ الكريمِ .
مثالٌ :
عندما قصدَ سيدُنا موسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ ليحررَ بني اسرائيلَ من سطوةِ فرعونَ الديكتاتورِ – و ما أشبهَ البارحة باليومِ؛ ما أشبهَ الأمس بالآن – بماذا حرَّرَ سيدُنا موسى بني إسرائيل ؟
هل قالَ لفرعونَ أنا جئتُ لأقومَ بثورةٍ ضدكَ و أستلمُ الحكمَ بدلاً عنكَ ؟ أم جاءَهُبِسمِ اللهِ وأنَّ اللهَ هوَ مَن بعثَهُ ؟
بل أكَّدَ موسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنَّ اللهَ تعالى أيَّدَهُبآياتٍ و دلائلَ منهُ سبحانهُ و تعالى لكي يُحرِّرَ بني إسرائيل من سطوةِ فرعونَ .
بل جاءَهُبِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ و ليسَ باسمِ موسى ..
لأنَّ موسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ كانَ قد تربَّى عندَ فرعونَ حيثُ كان يُتِمُّ تحضيرَهليصبحَ الفرعونَ القادمَ لذا علموهُ كلَّ العلومِ ليصبحَ الفرعونَ القادمَ على عرش مصر .
و لكنَّ حريةَ سيدِنا موسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ هي الحرِّيَّةُ الكاملةُ ، التي جعلَتْه يَرتقي ، بل ارتقى به اللهُ إلى ما فوقَ الطُّورِ ، فإذا ما نزَلَ إنَّما ينزلُ إلى وادٍ مقدَّسٍ ، و إذا تكلمَ إنَّما يكلِّمُ الحقَّ .. يكلِّمُ اللهَ ، لأنَّهُ كليمُ الرحمنِ .
لماذَا ؟؟؟ بكلِّ بساطةٍ لأنَّهُ لم يكنْ باسمِ موسى و إنَّمَا كان بِسمِ اللهِ .
و في يومِنا هذا كلُّ حركاتِ التحرُّرِ من شرقِ الأرضِ إلى غربِها سواءً كانت الدينيةُ أو غيرُ الدينيةِ أو الإسلاميةُ إذا ما دعتْ إلى شخصٍ حاكِمٍ ؛ و لم ترَ اللهَ من ورائِهِ محيطَاً و لم ترغبْ بإقامةِ الحقِّ .. بإقامةِ بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ فهيَ قضيةٌ خاسرةٌ .
هذا الشيئُ عاينَّاهُ و شهدناهُ في الإسلامِ .
الأمويُّونَ لم يكونُوا دولةً عظيمةً إلا ببِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ .
الخلافةُ العثمانيةُ والسلطانُ عبدُ الحميدِ ( ببِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ ) رفضَ بيعَ القدسِ لِهرتزل اليهوديِّ عندما جاءَ لشراءِ القدسِ من السلطانِ عبد الحميدِ و كانَ السلطانُ بحاجةٍ ماسةٍ للمالِ ، فاستغلُّوا حاجتَهُ و جاؤوا للتجارةِ والشراءِ وعرَضُوا عليهِ النقودَ و لم ينتبهوا إلى أنَّ السلطانَ عبدَ الحميدِ رحمَهُ اللهُ تعالى إنَّما كانَ يحكمُ ببِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ و أنَّ القدسَ للهِ و ليست لهُ .
مفتاحُ حرِّيةِ الشعوبِ :
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ هي التي حررتْ بني إسرائيل من سطوةِ علماءِ الرسومِ والحاخاماتِ .
عندما جاءتْ مريمُ عليها السلامُ وهي تحملُ سيدَنا المسيحَ بين يديها واتَّهموها بأنَّها جاءتْ بشئٍ فريٍّ شنيعٍ غيرِ مقبولٍ ، و جاءتْ بغلامٍ وهي لم تتزوجْ فما كانَ منها إلَّا أنْ أشارتْ إلى الرضيعِ ؛ فتكلَّمَ هذا الرضيعُ الحرُّ ابنُ مريمَ الحرَّة و قالَ رسولُ اللهِ ونطقَ بكلمتِهِ الأولى في مسامعهم ؛ فقد قال : ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ) يَعني لستُ عبداً لأحدٍ منَ الكونِ ولستُ عبدَ الشهواتِ ، ولا عبدَ المناصبِ ، ولا عبدَ العِلمِ ، ولا عبدَ اللَّذَّاتِ ، ولاعبدَ الجاهاتِ ، ولا عبدَ المصالحِ ، وإنَّ عبوديَّتي للهِ وحده ( عَبدُ اللهِ ) وأنَّ اللهَ أعطاني الكتابَ وعلَّمَني كيفَ أكونُ حرَّاً وعلَّمَني حقائقَ هذهِ الحرِّيَّةِ .
إنجيلُ ( مار متَّى ) يقولُ : طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ .
أي عندما تكونُ روحُكَ من أجلِ اللهِ فإنكَ تُعاينُ ملكوتَ اللهِ .
ومثالٌ آخرُ يقولُ : ( إن مرور جملٍ من ثقب إبرةٍ أيسر من أن يدخل غنيٌ إلى ملكوت الله ) لا يدخلُ ملكوتَ اللهِ غنيٌ، أي الأغنياءُ لا يدخلونَ ملكوتَ اللهِ ، والأغنياءُ هم الذينَ استَغنُوا عن اسمِ اللهِ باسمِهم .
ويقولُ : أنا فعلتُ وأنا .. وأنا .. ويَنسبُ الكلَّ لذاتهِ البشريةِ، وهذَا شِركٌ ، فهوَ يُشرِكُ دونَ أن يَشعُرَ .
سيدُنا عيسى عليهِ السلامُ ابنُ مريمَ قالَ : أنا لمْ آتِ باسمِي ولا باسمِ المسيحِ ، أنا جئتُ باسمِ ربِّ المسيحِ وجئتُ باسمِ الرحمةِ الإلهيةِ و باسمِ السلامِ .
سيدُنا موسى وسيدُنا عيسى عليهما السلامُ إنَّما حرَّرا ببِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ فدَعُونا نتعلَّمُ منهما هذا الدرسَ و هذا السرَّ ، و نتعلَّمُ من حياةِ سيدِنا محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ و آلِهِ وَ صحبهِ وَ نفهمُ كيفَ فهِمَ بسملةَ القرءَانِ الكريمِ .
فنحنُ لا بدَّ أن نتعلَّمَ ونفهمَ ( بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ ) . كما تعلَّمَها سيدُنا محمدٌ صلَّى الله عليهِ و آلهِ و صحبِهِ وسلَّمَ لأنَّها مفتاحُ حريتِنا الأبديُّ ، لأننا قومٌ أعزَّنا اللهُ بالإسلامِ .
أما إذا كانَ هدُفنا غيرَ الإسلامِ و قوانينَ وضعيةٍ مختلفةٍ أذلَّنا اللهُ ، فهذهِ حقيقةٌ قالَها عمرُ بن الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ .
و نحنُ اليومَ في هذا العصرِ الحديثِ شهِدناها بأمِّ أعيُنِنا كيفَ عبدَتِ الشعوبُ حُكَّامَها وعَبَدُوا وفقَ القوانينِ الوضعيِّةِ وأصبحُوا يتكلمونَ باسمِ اللَّادينِ و باسمِ الشعبِ، كيفَ تغيَّرَتِ الأمورُ و فقدَ الإسلامُ الكثيرَ من أتباعهِ ، و اليومَ فإنَّ المسلمينَ بأمسِّ الحاجةِ إلى العودةِ إلى حضنِ الإسلامِ .. و لن يَرجعوا إلَّا بتحرُّرِهم من كلِّ الكائناتِ .
نعمْ أيُّها الشعبُ ، يا أهلَ القرءانِ الكريمِ ، يا أهلَ النورِ ، يا أهلَ الإسلامِ ، تعالَوا معاً لنتحرَّرَ من كلِّ المخلوقاتِ و نكونَ ببِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ وليسَ باسمِ أنفسِنا و كياناتِنا ، فمفتاحُ تحريرِ الشعوبِ إنَّما هو بتحقيقِ التخلُّقِ و التحقُّقِ ببِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ .
حرِّيَّةُ البسملةِ دعوةٌ لانتظامِ الشعوبِ بسِلكِ توحيدٍ ربَّانيٍّ :
هذهِ الدعوةُ ليستْ تفلُّتاً عن النظامِ الكونيِ .. بل هيَ انتظامٌ في سلكِ التوحيدِ الربانيِّ .. باسمِ ربِّ الكونِ ..
أخاطبُكمْ باسمِ ربِّ القرءانِ الكريمِ عنَ ما يقولُ بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ .
أكلمُكمْ بحقيقةٍ .. حقيقةِ تحريرِ الشعوبِ من حيثُ أنها لا تكونُ إلَّا ببِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ و تخلُّقُنا باسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ .
هذه حقيقةٌ كونيَّةٌ وجوديَّةٌ يجبُ الانتباهُ لها .
فقد تعدَّدَتِ الأسماءُ سابقاً ، و رأينا كيفَ أنَّ الشعوبَ عَبدوا الإمبراطورَ في شرقِ آسيا ، وكلُّ ذلكَ زالَ ولمْ يبقَ إلَّا اسمُ ( اللهِ ) .
لا بدَّ أن نتعلَّمَ هذا الدرسَ منَ الأديانِ السابقةِ ، و نتعلَّمَ من بسملةِ الفاتحةِ هذهِ الحريةَ و كيفَ أنَّها مفتاحُ حريةِ الشعوبِ اليومَ .
فلو أردْنا على الحقيقةِ مشروعاً جديداً لتحريرِ الشعوبِ وصناعةِ كوكبٍ جميلٍ جداً بلْ وأجمل من مدينةِ أفلاطون الفاضلةِ دَعونا نعيشُ زمنَ الإسلامِ المحمَّديِّ و مدينةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ و آلهِ و صحبهِ وسلَّمَ ( المدينةِ المنوَّرَةِ ) التي كانت ببِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ ، كانت بمنتهى النظامِ ومنتهى الانقيادِ و التسلسلِ و التراتيبِ الإداريه في عهدِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لأنهم كانوا بشراً حقيقيين ؛ لم يكن هناك ادِّعاءاتٍ و ادِّعاءاتٍ و ادِّعاءاتٍ ، وإنَّما كانوا ببِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ .
كانوا في سِلكِ رسولِ اللهِ و كانوا وراءَه صفَّاً واحداً صلَّى اللهُ عليهِ و آلهِ و صحبهِ وسلَّم .
نعم نحتاجُ إلى قائدٍ نقفُ وراءَه صفَّاً واحداً . ولكنْ ولاؤُنا للهِ من وراءِ هذا القائدِ ( وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ) .
إذا تحرَّكَ القائدُ تحرَّكْنا معهُ لأنَّ اللهَ أمَرَنا ، أمَرَنا أن نأتمِرَ و نسمعَ القائدَ ، هذه هي الحقيقةُ .
أيُّها السادةُ ( بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ ) هي مفتاحُ حريَّةِ الشعوبِ اليومَ و لكنْ بشرطٍ واحدٍ ،بأنْ يتحقَّقوا و يتخلَّقوا بهذهِ الحرِّيَّةِ .
للمزيد … يمكنك تصفح / تحميل كتاب تفسير بنور الله تعالى – البسملة (الجزء الأول) وذلك عبر الضغط على الصورة .

أقرأ التالي
6 يونيو، 2020
سبحان الله تعالى – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
4 يونيو، 2020
خلاصة في علم الحقائق البرزخية – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
28 مايو، 2020
قاعدة رقائق عشق واختيار – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
زر الذهاب إلى الأعلى