تراتيبُ الهيكلِ النورانيِّ الحرفيِّ
كلُّ حرفٍ من حُروفِ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } التسعةَ عشرَ فيهِ مكنوناتٌ ومخزوناتٌ أشَرْنا إليها وبدَأنا بِبَسطِ معلوماتِها ووصَلْنا إلى أنَّ العالِمَ الذي يريدُ أن يَفهمَ أسرارَ وأنوارَ البسملةِ ويريدُ أن يُصبِحَ مِن أهلِ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .. مِن أهلِ الذِّكْرِ .. مِن أهلِ القرءَانِ الكريمِ .. أهلِ اللهِ وخاصَّتِهِ .. يجبُ أن يعرفَ تماماً روحانيَّةَ كلِّ حرفٍ من حروفِ القرءَانِ الكريمِ وطاقتِهِ ونورانيَّتِهِ وأبعادِهِ .. وأن يَعرِفَ ما هي فهومُهُ وعلومُهُ وإدراكاتُهُ وفعاليَّتُهُ .
إذاً نحنُ الآنَ في صدَدِ دراسةٍ مفصَّلَةٍ لحقيقةِ أنوارِ حروفِ بسملةِ الفاتحةِ الكريمةِ .
وتكلَّمْنا على أنَّ الترتيبَ يُعيِّنُ الأحكامَ التي تنبثقُ عن الكلمةِ كما يُحدِّدُ الهيكلَ النورانيَّ للكلمةِ من كونِها مُطلَقةً أو مقيَّدةً ؛ وضرَبْنا لذلكَ مِثالاً وهو فِعلُ ( لَعِبَ ) بأنَّهُ واسعٌ مطلَقٌ في الإطلاقِ النِّسبيِّ طبعاً وليسَ في الإطلاقِ الإلهيِّ ، فاللهُ تعالى هو الوحيدُ المطلَقُ بالإطلاقِ الذاتيِّ بلا نِسبةٍ ، ولكنَّنا عندما نتكلَّمُ عن شيءٍ في الكونِ أو عن مخلوقٍ من المخلوقاتِ أو عن كائنٍ من الكائناتِ ولا نستطيعُ أن نحصيهِ أونعُدَّهُ نقولُ عنهُ إنَّهُ مطلَقٌ نسبيٌّ وذلكَ كقولِهِ تعالى في الآيةِ 34 من سُورةِ إبراهيم : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا } وهذا يتناولُ أيَّ نعمةٍ من النِّعَم مثلَ شُربِ الماءِ الذي إذا أردْنا أن نحصيَهُ كنعمةٍ لا نستطيعُ .. فهو مطلَقٌ بإطلاقٍ نسبيٍّ وذلك لأنَّنا كبشرٍ لا تستطيعُ عقولُنا أن تحصيَ النِّعَمَ الموجودةَ في شُربَةِ الماءِ .
والآن يا وليِّي في اللهِ تَعالى نوَّرَ اللهُ فهمَكَ للحُروفِ أريدُ أن أتكلَّمَ عن جانبٍ آخرَ في الهيكلِ النورانيِّ للكلمةِ وأعودَ لأؤكِّدَ أنَّهُ يجبُ علينا أن نفهمَ هذهِ الحقيقةَ وهي :
إنَّ ترتيبَ هذهِ الحُروفِ في الكلمةِ هو الذي يصيغُ ويعطي شكلَ وهيئةَ الهيكلِ النورانيِّ الخاصِّ بالكلمةِ ، وحولَ هذا المعنى سندرسُ كلمتين إن شاءَ اللهُ تعالى كمثالٍ من أجلِ أن ننطلقَ مِنهُما لفَهمِ كلمَتَيّ { الرَّحْمَنِ } و { الرَّحِيمِ } في البسملةِ .
مثالٌ للتوضيحِ – ولنأخذ كلِمَتَيّ حَسَبَ وحَبَسَ :
إنَّ حُروفَ كلمةِ ( حَسَبَ ) هيَ ( ح س ب ) وإذا أعدْنا ترتيبَ نفسِ هذهِ الحُروفِ بشكلٍ مختلفٍ سيتشكَّلُ معنا هيكلٌ نورانيٌّ خاصٌّ بالكلمةِ يضعُها بتصنيفٍ مختلفٍ ، فإذا وضَعْنا حرفَ الحاءِ أولَّاً بالترتيبِ وحرفَ الباءِ قبلَ السينِ فتصيرُ الكلمةُ ( حَبَسَ ) وبالتَّالي فقد تَشكَّلَ هيكلٌ نورانيٌّ للكلمةِ حدَّدَ مُستواها بأنَّها مقيِّدةٌ لأنَّ الحبْسَ هو قيدٌ وتقييدٌ .
حُبِس شخصٌ في الغرفةِ : أي قيَّدوهُ في هذهِ الغرفةِ وحدَّدُوا حركتَهُ ؛ ففِعلُ ( حَبَسَ ) هو عبارةٌ عن فعلِ قيدٍ .
بينما نجدُ نفسَ الحُروفِ ولكن بترتيبٍ آخرَ تُشكِّلُ فِعلَ ( حَسَبَ ) والذي هوَ مِن الحِسابِ والحِسبةِ والرياضيَّاتِ .
ولنقلْ وعلى سبيلِ المثالِ :
كم تُمضي منَ الوقتِ كلَّ يومٍ وأنتَ تَحسِبُ ؟
قد تَحسِبُ منَ الواحدِ ؛ إلى الألفِ ؛ إلى المِليار .. وتضربُ وتقسِّمُ وتجمَعُ .. فهذا كلُّهُ اسمُهُ حسابٌ .
كم هيَ حدودُ الحَضرةِ ؟
نقولُ إنَّها مفتوحةٌ أي مطلقَةٌ بالإطلاقِ النِّسبيِّ .
إذاً فالحُروفُ الثلاثةُ نفسُها ( ح س ب – حَسَبَ ) وبهذا الترتيبِ المُطلَقِ لها روحانيَّةٌ ونورانيَّةٌ في هيكلِها ( هيكلِ الكلمةِ النورانيِّ ) هذه الروحانيَّةُ والنورانيَّةُ هيَ التي عيَّنَتْ شيئاً مُطلَقاً في الحِسابِ .
بينما نجدُ نفسَ الحُروفِ وبهيكلٍ نورانيٍّ آخرَ مرتَّبٍ بترتيبٍ حرفيٍّ معيَّنٍ : ( ح ب س – حَبَسَ ) قد أعطَتْ فَهمَاً وهيكلاً نورانيَّاً يُعطي نورانيَّةَ القيدِ .
الكينوناتُ الخاصةُ في عالَمِ الحرفِ :
ننتقلُ إلى أمرٍ آخرَ مختلفٍ عن نورانيَّةِ القيدِ والإطلاقِ ألا وهو النورانياتُ الأخرى للبسائطِ الحرفيَّةِ :
حيثُ توجدُ هياكلُ نورانيَّةٌ خاصةٌ لا تنشأُ عن التراكيبِ والتراتيبِ الحرفيَّةِ ، بل هيَ بالأصلِ لا تنشأُ نشوءَاً لأنَّها كيانٌ خاصٌّ من الكينوناتِ في عالَمِ الحُروفِ .
فمثلاً :
إذا تناولنا على سبيلِ المثالِ حرفَ الباءِ وحرفَ النونِ وحرفَ الشينِ .. فإنَّ لكلِّ حرفٍ من هذهِ الحُروفِ هيكلَاً نورانيَّاً بسيطاً خاصَّاً في أصلِ وجودِهِ في ذاتِ اللهِ تعالى ، فالهيكلُ النورانيُّ لهذهِ الحُروفِ لا يَنشأُ نُشوءَاً عن تركيبٍ أو ترتيبٍ لأنَّ هذهِ الحُروفَ في الأصلِ هي بسائطُ غيرُ مركَّبَةٍ وغيرُ متجزِّئةٍ حتى تكونَ مترتِّبةً ، بل لهذهِ الحُروفِ هياكلُ نورانيَّةٌ خاصةٌ تكونُ بينَ عالَمِ روحِ الحرفِ وعالَمِ حِسِّ الحرفِ .
بينما هياكلُ التراكيبِ والتراتيبِ الحرفيَّةِ في { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وفي القرءانِ الكريمِ وفي الآياتِ وفي الكلامِ وفي كلِّ الألفاظِ في اللغةِ العربيةِ إنما تنشأُ من التراكيبِ والتراتيبِ الحرفيَّةِ على الجَمعِ ؛ ومِن الهياكلِ النورانيَّةِ للبسائطِ الحرفيَّةِ كلُّ حَرفٍ منها على انفرادِهِ .
صِلةُ رقائق الإطلاقِ والتقييدِ برقائق الجَمالِ والجلالِ :
لعلَّنا نعودُ هُنا إلى مثالِ كلمَتَيّ ( حَسَبَ وحَبَسَ ) :
حيثُ ينشأُ عنِ الترتيبِ الحرفيِّ ( ح ب س – حَبَسَ ) وعنِ الترتيبِ الحرفيِّ ( ح س ب – حَسَبَ ) هيكلانِ نورانيَّانِ ، وكلُّ هيكلٍ نورانيٍّ منهُما يُشيرُ في مسألةِ تحديدِ الإطلاقِ والتقييدِ إلى مسألةِ الجَمالِ والجلالِ .
فكلمةُ ( حَسَبَ ) مِن الحِسابِ حيثُ نرى هنا أننا في حالةِ جَمالٍ لأنَّ الحِسابَ هوَ عبارةٌ عن عمليةٍ رياضيةٍ متعلقةٍ بالحساباتِ كما ذَكَرْنا ؛ فهوَ ليسَ تجلِّي جلالٍ وإنَّما هوَ تجلِّي جَمالٍ .
إذاً ترتيبُ الحُروفِ ( ح س ب – حَسَبَ ) بهذا التسلسلِ إنَّما يُعطي حالةً خاصَّةً في الهيكلِ النورانيِّ للكلمةِ تشيرُ إلى حالةٍ من الجَمالِ فهي تجلِّي جَمالٍ .
بينما ترتيبُ الحُروفِ ( ح ب س – حَبَسَ ) بهذا التسلسلِ أنتَجَ كلمةً أنشَأتْ بترتيبِها الحرفيِّ الهيكلَ النورانيَّ للكلمةِ بأحديَّةِ الحُروفِ وأعطتْ تجلِّي جَلالٍ .
فكلمةُ ( حَبَسَ ) هي كلمةٌ جلاليةٌ ؛ وكلُّنا نخافُ من الحَبسِ ولا تُحِبُّ أرواحُنا الانحباسَ والانغلاقَ خاصةً أرواحُ العارفينَ والأولياءِ فهيَ تحبُّ الإطلاقَ .. حتى أنَّ أجسامَهم ترفضُ أن تكونَ مَركزاً أو مكاناً لحبسِ الروحِ فيهِ ؛ لذلكَ فإنَّهم يتطهَّرونَ عن شهواتِهم النفسيَّةِ ؛ ويتطهَّرونَ عن ارتباطِهمُ الدُّنيويِّ الجسمانيِّ والجَسَدانيِّ من أجلِ أن يتخلَّصُوا من هذا الحبسِ فتخرجُ أرواحُهم من هذا الحبسِ الماديِّ الجسديِّ وتتحرَّرُ في ملكوتِ اللهِ تعالى .
وبذلك نرى كيفَ أنَّ الهيكلَ النورانيَّ للكلمةِ الناشئَ عن التركيبِ والترتيبِ في الكلمةِ لم يُعطِ فقط الإطلاقَ أو التقييدَ ولكنَّهُ أيضاً حدَّدَ مسألةَ الجلالِ والجَمالِ فيما إذا كانَ هذا التعيينُ وهذا الترتيبُ وهذا الهيكلُ النورانيُّ جماليَّاً أم جلاليَّاً .
وكذا في بسملةِ الفاتحةِ : فإذا أردْنا أن ننظرَ في مسألةِ التراتيبِ الحرفيَّةِ نَرى أنَّ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } تضمَّنتِ الجَمالَ والجلالَ ؛ أي أنَّ تراتيبَها جماليةٌ جلاليةٌ ؛ فـاسمُ اللهِ { الرَّحْمَنِ } تجلٍّ جماليٌّ ؛ والهيكلُ النورانيُّ لِلَفظةِ { الرَّحْمَنِ } كما نسمعُها فيها تجلٍّ جماليٌّ في الظاهرِ وجلاليٌّ في الباطنِ .
ولكن كيفَ عَرَفنا أنَّه جلاليٌّ في الباطنِ ؟
عرَفنا ذلك من آياتٍ قرءانيَّةٍ أخرى تتكلَّمُ عنِ اسمِ اللهِ { الرَّحْمَنِ } مثلَ قولِهِ تَعالى في الآية (96) من سورة مريم :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً }
فالودُّ حالةُ حبٍّ .. بل ثباتٌ في الحبِّ ، فهو حالةٌ جماليَّةٌ .. إذاً فالتجلِّي الرحمانيُّ هنا كانَ جَماليَّاً .
بَينما نجدُ قولَهُ تَعالى في الآيَةِ (75) من سورةِ مريمَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً }
إذاً فالمَدَدُ الرحمانيُّ هنا إنَّما هو إمدادٌ جلاليٌّ .
وهناك آيةٌ أخرى وهيَ الآيةُ 61 في سُورةِ مريمَ أيضاً إذ يقولُ الحقُّ عزَّ مِن قائلٍ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً }
فالرَّحمنُ هُنا وعَدَ بجنَّاتِ عدنٍ وهذا تجلٍّ جماليٍّ .
وأيضاً وبنفسِ السُّورةِ و في الآيةِ (45) يقولُ الحقُّ سبحانَهُ وتَعالى : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً }
فالتَّجلِّي الرحمانيُّ هنا تجلِّي جلالٍ .
ممَّا سبقَ عَلِمْنا أنَّ في تجلِّي كلمةِ واسمِ { الرَّحْمَنِ } تجلِّي المكنوناتِ الذاتيَّةِ ؛ فهذهِ اللَّفظةُ التي هيَ اسمٌ من أسماءِ اللهِ سبحانَهُ وتَعالى إنَّمَا هيَ مانِحَةٌ من رقائقِ النُّورِ ومن هيكلِها النورانيِّ ما هوَ جَماليٌّ وما هو جلاليٌّ .
بينَما نجدُ أنَّ اسمَ اللهِ { الرَّحِيمِ } في القرءَانِ الكريمِ هو اسمٌ جَماليُّ فقط ؛ ولم يَرِدْ عنِ اسمِ { الرَّحِيمِ } أنَّهُ جلاليٌّ أو أنَّهُ قد خَرجَ من هيكلِهِ النورانيِّ ( بالنسبةِ للألفاظِ ) ماهوَ جلاليٌّ وإنَّما كانَ خروجاً لنورانيَّاتٍ جماليةٍ أي أنَّهُ من ألفاظِ وإمداداتِ الجَمالِ .
هذا من نورانيَّاتِ الحُروفِ ومنَ الهياكلِ النورانيَّةِ للحُروفِ .
للمزيد … يمكنك تصفح / تحميل كتاب تفسير بنور الله تعالى – البسملة (الجزء الثاني) وذلك عبر الضغط على الصورة .

أقرأ التالي
19 يونيو، 2020
العمامة في الطريقة المجددية الكمالية
6 يونيو، 2020
الميزان العام والخاص – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
27 مايو، 2020
الإنتربولوجيا بين الحضرتين الموسوية والمحمدية – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
زر الذهاب إلى الأعلى