باب في معرفة هيكل الهياكل النورانيّة من الحضرة المحمديّة
اعلم يا وليي في الله تعالى أن أعظم تعيّن هو التعيين الذي فيه كل التعيّنات وذلك لا يكون إلا في الحقيقة المحمديّة العظمى فهي أول تعيّن حقّاني تتجلى به الذات الإلهيّة، ولولا أنّ الحقّ عزّ وجلّ أنبأنا ذلك في قرآنه الكريم في سورة المائدة (3) قوله تعالى : { .. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً .. } ، لما عرَف أحد هذه المعرفة العالية فإنّه لا يظهر الكمال إلا من كامل وما ظهر الكمال في الرسالة والنّبوة والولاية إلا بالذات المحمديّة الشريفة لا على سبيل التفصيل فقط فإنّ ذلك موجود في كل نبيّ ورسول و وليّ فكلٌ منهم على كمال خاص به ، وإنّما اختصّ الذات المحمديّة بصورة الكمال المُستوعِب ( بكسر العين ) لكل الكمالات التفصيليّة والكمالات بالإجمال وبجمع الجمع الكماليّ فهذا ما ظهر إلا عن ذاته الشريفة بأمر الحقّ تعالى وتعريفا لقدر هذا التعيّن الكماليّ الأعظم صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين ، وانظر علو هذه الحقيقة في ذاتها حيث إنّ التّعريف في هذا المستوى الأعظميّ الكماليّ التعيّن تمّ بلسان الحضرة نفسها وهو تعريف ذاتيّ فقد قال « أكملت » ثمّ « أتممت » ولم يقل أكمل لكم وتمّم لكم ، وهنا الخطاب من أعلى تعيين ولذلك لم يكن ثمّ مُعرِّف ( بكسر الرّاء ) له إلا ذاتيته ولسانه الخاص ؛ إشارة من هذا التحقّق إلى أنّه التعيين الأعظم والأكمل الجامع الشامل التام المُجمل والمُفصّل الكُليّ العام الجامع للجزئيّ والخاص والمشترك .
ولما علمنا بهذه الحقيقة علمنا أنّ ما من تعيين ينبثق عن هذا التعيين إلا وهو مصبوغ بكمال هذا التعيين الأعظم ومن هنا كانت معرفتنا بكل التعيينات التفصيليّة الظاهرة ، وتحقّقنا بذاتيّة هذه الحضرة السَنية ، ولما كانت أُمتنا المحمديّة أُمة اتباعٍ لا ابتداعٍ ، اتباعٍ لهذا التعيين المحمّديّ فلا نبتدع ما لم يُشرّعه لنا ، فقد وجب علينا إذا أردنا معرفة التفصيلات الكماليّة لكمال هذا التعيين أن نلجأ إلى ما عيّن لنا هو بتجليه العام علينا فطلبنا هذا التعريف فما وجدنا إلا القرءان الكريم فقد قال تعالى : { .. وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ {21} يس ، فلما عرفنا أنّ القرءان الكريم جمع كل صغيرة وكبيرة وفي نفس الوقت كان بحقائقه خُلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام المبين الذي جمع كل تعيين فكان بذلك هيكلاً تاماً كاملاً شاملاً لجميع الكينونات وهو بذلك هيكل الهياكل جمعاء ؛ وأقول الهياكل لأنّ ذاته الشريفة لمّا كانت مَظهَراً لتحقّقات القرءان الكريم ؛ وكان القرءان الكريم مُفَصَّلاً على صور الهياكل الحاملة لأسرار العلوم والفهوم وأنوارها ودقائقها ورقائقها كان القرءان بكليّته جمعاً مُحقّقاً لكل هياكل سوره ، ولمّا كان خُلقه القرءان صلى الله عليه وآله وسلم كان في ذاته جمعاً مُحقِّقاً لكل هياكل سوره ؛ ولهذا قلتُ هيكل الهياكل فتنبه إلى هذا السرّ العظيم ، فإنّ في التعيين الأول صورة سورة سور جمع الهياكل ؛ وسورة صورة صور جمع الهياكل ؛ ولولا هذه الخاصيّة لما كان تعيين التعيينات ولما كان هو التعيين الأول .
(( فصل بل وصل )) في البيوت التي تُشكّل حسب ترتيباتها الدرجة المتعينة من درجات الهيكل فاعلم أنّه من التعيينات الخاصة في كل بيت متعيّن من بيوت أيّ درجة كانت من درجات الهياكل إنّما تنقسم حصراً في عوالمها إلى أربعة حجرات مبنيّة على التسلسل ، فإذا دخلت البيت كنت حصراً في حجرة التفسير التي يقابلها حجرة المعراج الروحيّ في نهاية التسلسل ، وقبل هذه الأخيرة في التسلسل حجرة الحدود ، وبعد الحجرة الأولى حجرة التأويلات ، وقد تكلم عنها الشيخ الأكبر محمّد بن عليّ محيي الدين ابن عربي رحمه الله تعالى إلا أنه لم يذكرها من هذا التفصيل بل تكلّم عنها بوجه عام في فتوحاته المكيّة عندما تكلم عن المنازل التسع عشرة ، ومنازله هناك عامة تصف توزّع آيات القرءان الكريم عليها وانحصارها فيها ، فاقتضى ذلك منه التكلم عن تفريداتها الأربع بلسان العموم والذي أقوله هنا إنّما هو من وجه آخر؛ من وجه ارتباط حجرات كل بيت بالدرجة المعيّنة من درجات هيكل ما من الهياكل فالهياكل تزيد في عددها ستة أضعاف عدد منازل القرءان الأصليّة لتحقّق عدد « كاف » التكوين عند أهل الأنوار فيكون عدد الهياكل بضربه مع سرّ التّكوين الباطن والذي لا يكون إلا عن تحقّق الحرف الذي له أول عدد تام .
اعلم يا ولييّ في الله وهبك من نوره حقائق العلم وتوابعه أنّ المعلومات في اسمه العليم إنما هي مضبوطة بالحكمة وليست عشوائيّة أو ذات وجود فوضوي كما قد يظن البعض ، فإنّ نور الحكمة من اسمه الحكيم حقيقة رديفة لحقيقة اسم الله العليم، فما من معلومة في اسمه العليم إلا والحكمة سارية فيها لسريان قيوميّة الحياة الإلهيّة الضابطة للعلم ، إلى درجة أنك إذا اختبرت حكمة التنظيم المعلوماتيّ في اسم الله العليم وجدت أنك كلما اخترقت تجليات أكثر في حياض اسمه الخبير فإذا بك تزداد تحققا من حكمة الحكيم في صياغة معلومات الاسم العليم ، فالعليم الاسم والحكيم والخبير ثلاث حضرات تحكم وجود المعلومة في ذاتيتها الكائنة في حياته المنبثقة عن اسمه الحي ، ولما كان هيكل الهياكل روح له التعيين الأعظم كانت خصائصه السبع في تجليات الحي العليم ذات تحقّق بحكمة الترتيب ، ولما طلبتُ الحقّ ليكشف لي عن ذاتيات هيكل الهياكل وجدته جمعاً يجمل تفصيلاً من ثلاثين بحرٍ يتساوى كل منهم مع الآخر من اسمه العدل إلا أنّ في عين هذا التساوي وجدت أن كل بحرٍ له حقّه من عدد الهياكل ، فمنها بحرٌ فيه سبعة وثلاثون هيكلاً وهو الذي يعتبر آخر تلك البحور، ومنها بحرٌ يحوي خُمْسَي هيكل واحد ، يسبقه بحرٌ فيه خُمْسان ، وبعده بحر فيه خُمْس الهيكل ، فكان هذا الهيكل وهو الأكبر وليس بالأعظم مٌقسما على ثلاثة أبحر من الثلاثين بالنِسب التي ذُكرت، وليس استغراق الهيكل لعدد أكبر من بحور التعيين الأول هيكل الهياكل دليل على عظمه وقوة إجماله ، ففي البحر الأول مثلاً نجد أعظم الهياكل كلها على الإطلاق ، في حين إنه لا يُعيّن من البحر الأول من هذه الثلاثين إلا نصف عُشْرِه ، وفي هذا آية عظيمة من آيات الحقّ تعالى في التعيينات الهيكليّة في ذات التعيين الأول .
(( وصل في وصل )) اعلم يا ولييّ في الله تعالى جعلك محشراً لهياكل التعيين الأول على معرفة وتحقّق أن لكل هيكل تفصيل يُظهِر حقائق ذاتيّة ذاك الهيكل ، هي درجات يُعيّنها اسمه تعالى رفيع الدرجات ذو العرش يُلقي الروح من أمره في تلك البحور على من يشاء من عباده ممن وقف عند درجة من درجات أيّ هيكل من هياكل التعيين الأول ، فمن الهياكل ما هو قليل الدرجات ومنها ما هو كثير ، وأقلّها درجات هيكل فيه فقط ثلاث درجات ، وأعلاها هيكل درجاته بلغت من العدد مائتين وست وثمانين درجة ، وكل درجة من هذه الدرجات يُطلَق عليها اسم مَدْرَج لأنها توصل المستلم لبدايتها إلى الانطلاق الروحيّ في عالم الهيكل الجامع للمدارج .
(( وصل في وصل )) اعلم يا ولييّ في الله تعالى حقّق قلبك بهياكل قدسه ودرجات أُنسه أنّ درجات الهياكل المُفَصِّلة لذاتيّة كل هيكل إنّما هي متفاوتة فيما بينها ، في كل درجة تعيين مُحَدَّد في عالم العدد ، هي بيوت تلك الدرجات الواحدة ، إلا أنّ توضع البيوت في جميع درجات الهياكل أجمع إنّما يتنوع فقط على تسعة وعشرين تشكيلاً ، ومن توضع هذه التشكيلات تكون روح الدرجات ولا يُشترط في الدرجة الواحدة في أي هيكل كان أن تحمل جميع التشكيلات التسعة والعشرين ، ففي أحد الهياكل مثلاً درجة فيها سبعة بيوت مترتبة على نسق واحد تُمثّل أول درجة هبوطيّة في هيكلها والمسمى « هيكل العروس » ، وكل درجات هيكل العروس هذا إنّما هي تنزل عن درجات تلك الدرجة المُسَبَّعة التشكيل ولا يعني هذا أن جميع درجات هذا الهيكل مبنية على الحركة الهبوطيّة بل تجد في عين الهبوط في درجات هيكل العروس درجات هي انعطافات قدرويّة ترفع النازل فيها درجات نحو العروج وتارة يستمر الهبوط ، وهكذا الأمر على حسب التجلّيات الأصليّة المتعينة لكل درجة من درجات الهياكل والتي ينبثق عنها ما لا يتناهى من التجليات الفرعيّة ، فكل درجة إنّما هي محدودة في عدد بيوت التشكيل لا متناهية في انبثاق الحقائق منها مما لا يعلمه ولا يحصيه على سبيل الحصر إنْ كان هناك ثمة حصر إلا الله تعالى ، وسيأتي شرح هيكل العروس وبحره ودرجاته في حينه إن شاء الله تعالى ، وما تكلمت عليه هنا إلا لذكر مثال يقربك إلى حقيقة هيكل الهياكل .
والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل والحمد لله ربّ العالمين
( من رسالة المجددية الأولى في الإشارة عن الهياكل النورانية للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب ) .