باب في معرفة منزل منازل انبثاق الأسرار في حضرة الابتداء من الحضرة المحمديّة
اعلم ياولييّ في الله تعالى أن هذا المنزل هو منزل المنازل الابتدائيّة في الحضرات الوجوديّة كلها ، ومن تجليات الاسم الأعظم الذي افتتح كل رقيم ، وأظهر كل غائب ، وقامت به عوالم كل شاهد ، وبه كانت أعظم آية في القرءان الكريم آية الكرسي ، وبه كانت أعظم سورة في القرءان الكريم سورة الفاتحة وبه كانت أعظم صورة في العالمين صورة الإنسان ، لأنه على صورة ربه ، كما جاء في الحديث الصحيح :
« إن الله خلق آدم على صورته » ، وفي حديث له مرتبة الحسن جاء فيه أن الله خلق الإنسان على صورة الرحمن ، وكذلك منزل المنازل الابتدائيّة كان من بحور حضرة الاسم الأعظم ، وعندما كرّمني الله وشرّفني في الدخول إلى ذلك المنزل الشريف العالي الجَناب ، وجدته من أبدع المنازل في افتتاح البدايات ، فهو مبني على التربيع ، وبذلك حصل لهذا المنزل قوة الاتزان في كل الحضرات ، باطنه واحد وظاهره متعدد التجليات ، أما الباطن الواحد فقد ظهر في ثلاثة مواضع منه ، موضعان يعززان شهود الخلق للحقّ ، وموضع يعزز استعداد المخلوق لظهور الحقّ ، فالأول في هذا المنزل عامٌّ للكل ، والثالث لأصحاب السلوك من المؤمنين ، أما الثاني فهو خصوص لأصحاب الخصوصيّة، وبهذا البطون افتتح الحقّ سبحانه وتعالى في منزل المنازل من حضرة الابتداء باطن كل شيء استعداداً في الأشياء لظهور تجلياته الباطنة على كل باطن .
وأما الظاهر المتعدّد التجلّيات ففيه ستة عشر تجلياً ، سبعة منها في افتتاحات الأكوان ، وستة منها مخصوصة لافتتاحات الإيمان ، فلا يعرفها بأسرارها إلا المؤمنون حقّا ، وما بقي من هذه الستة عشر فهي ذاتيّة للحقّ يتجلى فيها جلال جماله ، منها تجلٍ يفتح في ذات المخلوق الذي يختصه الحقّ عوالم اسم الله الباسط ، فيعطي لروح المخلوق انبساطاً يؤهله لدخول مقام التجلي الإلهي ليتحقّق عند اكتماله بشهود ربّه ، وهذا النوع من التجليات من أعجب التجليات التي رأيتها في ذاك المنزل ، فإنّ ابتداءه معرفة النفس ، فإذا بالمخلوق يصل إلى معرفة الربّ ، وقد صدق حبيبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حين قال في حديث له مرتبة الحسن عند أهل الحديث وأرويه بسندي المتصل ؛ حيث قالت أمي عائشة رضي الله تعالى عنها : « هل يعرف المرء ربه ؟ ، فقال حبيبي المصطفى : نعم يا عائشة إذا عرف المرء نفسه » ، ومن هنا قال من قال ؛ من عرف نفسه عرف ربه ، وهناك أيضا ثلاثة تجليات غير الستة عشر تصبغ الوجود بذاتيتها ، فلا يخرج عن الانصباغ بها كائن من كان في عالم الخلق ، لشدة تجلّي الحقّ فيها ، ومن عجيب هذا المنزل أنه الافتتاح الربّاني لكل البدايات في حين لا يستطيع أن يفتح به من الكائنات ابتداءاته على سبيل التحقيق إلا من انصبغ بالعبوديّة المحضة ، فهذا المنزل برزخ له من جهة الحقّ تجلّي العظمة السياديّة ، وله من جهة الخلق دعم العبوديّة في المخلوق ، والابتداء في هذه الحضرة على نوعين، ابتداء مباشر يَطال كل مخلوق ، وابتداء غير مباشر تُفَصَّلُ فيه الابتداءات الكونيّة كلها وكلا الابتداءين هو ابتداء حقيقي ، وهي على منازل عدّة تبلغ من العدد ما للقاف والياء والباء على حساب أهل الأنوار ، وكل منزل من هذه المنازل الابتدائيّة يفتح ما يفتح من عوالم الحقّ مما لا يستطيع إحصاءه إلا الحقّ جلّ وعلا .
واعلم ياولييّ في الله تعالى أن جميع الأسرار إنما تنفهق في حضرة الابتداء من هذا المنزل ، ففيه أسرار ابتداء دقائق الكون ورقائقه ، سواء عَلَتْ أو سَفُلَتْ بما فيها علوم الكلّ ، وهذه العلوم إنما لها من حضرة الابتداء وجودان ، الوجود الأوّل في النوع المباشر وهو وجود إجمال لا يعرفها إلا من عرف أسرار الإجمال ، والوجود الثاني الوجود غير المباشر حيث تتوزّع تلك العلوم المجملة في النوع الأوّل المباشر على منازل هذا النوع الثاني غير المباشر ، وهي هنا في هذا النوع غير المباشر تنقسم إلى عدد من الإجماليات على عدد المنازل الابتدائيّة ، حيث ينبثق من كل إجمال منها تفاصيل ذاك الإجمال حصراً .
ولتنتبه أيدك الله بروح القدس ، أن التفصيل إنما يحدث في غير منازل الابتداء ، فالعلوم المُجمَلة في هذا المنزل إنما أجملها الله تعالى فيه لسرّ الجمع وجمع الجمع الذي يحرك عالم القدرة فقد رأيت في هذا المنزل أسرار الجمع وجمع الجمع تدعم حركة التكوين من اسمه الواجد ، فما إن ينطق الإنسان الكامل من حضرة الابتداء إلا والتكوين حاصل ، حيث أوقعه ذلك الإنسان على حسب إرادته ، ومن هنا عرفنا أن اسم الله الواجد يشرف على عوالم النطق والتكوين ، وأن له تخلقات خاصة يتخلق بها العبد الكامل وعرفنا اختصاص هذا التخلق بفلك اللسان من الإنسان وأن المتخلّق بهذا الاسم من هذا المنزل من ألسنة العبيد إنما هو مُكوّن لما يريد وبالتالي عرفنا في هذا المنزل سرّ من أسرار التحقّق بالله الذي هو ثمرة عن حب الله لعبده عندما يتقرب إليه بالنوافل ، ففي حين قال الله تعالى في الحديث القدسيّ الصحيح لمن أحبه :
« كنت بصره الذي يبصر به » ؛ علمنا أنه يتجلى على بصره باسم البصير من غير حلول ولا اتحاد ، وفي قوله : « كنت سمعه الذي يسمع به » أنه يتجلي على سمع العبد باسمه السميع فإذا به سمع الحقّ بغير حلول ولا اتحاد ، وتجلى على لسان العبد باسمه الواجد فكان التكوين، وتكوّن الكون بنطق الواجد على لسان العبد بلا حلول ولا اتحاد ، فإن لكل حقيقة مستند تستند إليه في الإلهيات هو مُمدّها ومظهرها .
وهنا تستطيع أن تستشف سرّ توحيد المشيئة في قوله تعالى :
{ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ .. {92} التكوير ، وفيه التصريح بالمشيئتين ؛ والتصريح بتبعيّة مشيئة العبد لمشيئة الحقّ؛ والتصريح بفاعليّة مشيئة الحقّ في التكوين بلسان العبد المحبوب عندما كان الحقّ لسانه الذي ينطق به ، ومن هنا نعلم أيضاً أن في هذا المنزل سرّ التكوين وأن العبد الذي يكوّن ما ظهر عنه تكوين إلا في نزوله بهذا المنزل ليتحقّق بمنازل الابتداء التي هي حصراً منبعثة عن الحقّ ، ولما كان التكوين حاصلاً مع أزمنة الكون وأمكنته من الأزل إلى الأبد عرفنا قوة استغراق هذا المنزل للوجود من الأزل إلى الأبد ، فهو منزل من أوسع المنازل وأرقاها وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظّ عظيم .
واعلم ياولييّ في الله أيّدك الله بروح منه أن مقام الخِّلة هو من أحد ضلوع التربيع لهذا المنزل فإنّي لما دخلته وجدت فيه لطائف إنسانيّة سابحة في لذة مقامها ، وعندما نظرت إلى ذاك المقام فإذا به منبع أسرار المقام الإبراهيمي وتلك اللطائف إنما كانت أولياء لله ممن هم على قلب سيدنا إبراهيم عليه السلام ، وعلى الرغم من أن الرحمة صفتهم العامّة الشاملة لوجوداتهم إلا أنّ هذا المنزل في حضرة الابتداء هو سيف هؤلاء المحبّين ،
ومن هذا المنزل يَعرف الأولياء الذين هم على قدم إبراهيم عليه السلام حضرة الأسماء كلّها وتحصل لهم معرفة تلك الأسماء ، إلا أنهم لا يَظهرون بهذا المنزل بوصفهم فاعلين بالهمّة إلا إذا منعهم الحقّ سبحانه وتعالى من الظهور بوصف الخلافة عن الله تعالى بالسيف ، فإن إذن الظهور الممنوح لهم من هذا المنزل إنما يكون حينئذ بالهمّة ويكون هذا المنزل هو سيفهم في الباطن ومن عوالم هذا المنزل يَعرف الواصل سرَّ { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ {421} البقرة ، ولما كان للمقام الإبراهيمي أحد الإمامتين علمنا أن من شروط الإمام تنزّهه عن الظلم، وهذا لا يكون إلا في حضرة التقّديس من اسمه القدّوس، ومن هنا علمنا أن التكوين في هذا المنزل إنما يكون ثمرة هذا التقدّس ، وبالجملة فإن الاسم الواجد لا ينطق على لسان العبد حتى يتخلّق باسمه القدّوس ، ومن هنا كانت النصيحة النبويّة « اتقوا مجاري القرءان » فلا ينبغي لمن في قلبه قرآن يتلوه على لسانه أن يمرر نور هذا القرءان المتلو في مجرى نطقه والمجرى ملوّث بكلمات دنسة مثل كلمات الكفر والنفاق والكذب والفحش ، ولا فرق بين من قال بأن الحضرة القدّوسيّة سابقة على الواجديّة وبين من قال إن الحضرة الواجديّة تسبق القدّوسيّة ففي كلا القولين حقّ ، فمَن نظر إلى تطهّر اللسان بالقدّوس قبل تخلّقه باسم الواجد قال بأسبقيّة القدّوسيّة على الواجديّة ، ومن رأى أن اللسان إنما ينطق باسمه الواجد فلا يكون عنه تكوين إلا إذا ردفته الحضرة القدّوسيّة من اسمه القدّوس قال بأسبقيّة الواجديّة على القدّوسيّة ، وإنما أقول لا فرق لأن الحقيقة على التوحيد وما ثمّ فصل في هذا المنزل ، فإنه جلَ وعلا القدّوس الواجد بأحديّة كاملة ، فافهم .
أما جلال الجمال والذي هو أحد أضلاع التربيع في هذا المنزل الذي انبثقت عنه أنهار الجنّة الأربعة ، فإنه ينسحب في حضرة الابتداء على جميع أسماء الله تعالى ، وبهذا كانت جميع الأسماء الحسنى وغيرها تنطوي تحت سلطان الاسم الله من كونه الاسم الظاهر الجامع لكل الأسماء والصفات والدّال على تفرّد الذات ، فهو الموجود الحقّ الذي لا يقيده تجلٍ في الخلق فهو المُطْلَق، ومن باطن هذا المنزل استمدت الهُويّة سرّ العظمة السياديّة من ذاك الوجه الذي للحقّ فكان الهو في هذا المنزل جامعاً لكل الأسماء والصفات ودالاً على الذات في الباطن ، فلفظ الجلالة الله مرآة هذا الهو في الظاهر ، والهو هو المتجليّ في مرآة الظاهر وهو الباطن ، والاسم الأعظم يمدّهما ليتجلى من خلالهما في كل ما انطوى تحت لفظيهما ، فما من اسم إلا وله تابع ، ولجنابه العظيم خاضع ، وبنوره العظيم متصرف ، وبذلك سادت حضرة الابتداء باقي الحضرات لما افتتحت في الكلّ من افتتاحات ، فبجلال الجمال ساد الكلّ وبجمال هذا الجلال مُنح التكوين لكل الأسماء فكان الصّبور الاسم يكوّن الصّبر ، وكان الكريم الاسم يكوّن الكرم ، وكان المنتقم الاسم يكوّن الانتقام ، وكان المجيد الاسم يكوّن المجد .
ومن هذا المنزل أيضاً تعرِف سرّ سَبْقِ الرحمة للغضب ، حيث قال حبيبي عز وجل من قائل في الحديث الصحيح : « رحمتي سبقت غضبي » ، فإني رأيت جلال جمال هذا المنزل إنما هو مصبوغ بأنوار الرحمة الربّانيّة بنوريها ، رحمة الوجوب ؛ ورحمة الامتنان ، فعلمتُ أنه ما من تكوين يصدر من حضرة الواجد إلا والرحمة تسبقه سواء كان تكوين جلال أم تكوين جمال .
وعلمت من تلك الحضرة أنه ما من كائن مخلوق يوجده الحقّ إلا والرحمة صبغته { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ {831} البقرة ، وعرفت السرّ الذي يصبغ عباد الرحمن فيعطيهم المشي هوناَ ، والذي يجعلهم إذا خاطبهم الجاهلون يستمدون من اسمه السلام فتُكَوِّنُ ألسنتهم السين لام ألف ميم مُختتمة بألِف الإطلاق ، فقد قال حبيبي عز وجلّ :
{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا {36} الفرقان ، ولم يقولوا سلام بلا ألف إطلاق ، فانسحبت ألف الإطلاق على تعبيراتهم، فما عبّر لسانهم إلا عن حقيقة الفاعل فيهم المتجليّ على ألسنتهم لمّا أحبّهم حبّ النوافل ، فكان لسانهم الذي ينطقون به ، فاذا باللسان يُعبّر عن المُطْلَق الناطق به .
ومن هذه الحضرة عَرفت أنه لا حلول ولا اتحاد وأنه أخطأ كل من قال بوحدة الوجود ، فالعبد عبدٌ وإن تخلّق بربّه وتجلّى الحقّ عليه بذاته ، فلا العبد يصير ربّاً ولا الربّ يصير عبداً ،
فلا حقيقة لوحدة الوجود وإنما هي توحيد الشهود ، وقد أخطأ خطأ جسيماً من قال إنّ وحدة الوجود هو نفسه توحيد الشهود أو وحدة الشهود ، لأن وحدة الشهود تُثبت ما أثبته الحقّ من كونه الفاعل بجوارح العبد ، فنشهدُ وحدة الفاعل بكل مخلوق ولا نُصَيِّرُ المخلوق خالقاً ، فشتّان بين وحدة الوجود ووحدة الشهود ، والقرءان الكريم في علومه التفصيليّة التي أجمَلَها هذا المنزل يؤكد وحدة الشهود تأكيداً جزماً وينفي وحدة الوجود نفياً قاطعاً فهو يقول وله العزة { .. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى .. {71} الأنفال ، فيثبت العبد الرامي ويُري من شاهد هذا العبد وهو يرمي فاعليّة الحقّ من وراء رميه ، فأثبت بذلك المخلوق وأشهد الكلّ الواحد الفاعل من ورائه مّحيط ، فلا ننظر إلى مخلوق إلا ونشهد الحقّ من ورائه فاعل بكلّ فعل ، والله من وراءهم مّحيط وصرّح بذلك حين قال والله خلقكم وما تعملون فأثبت عمل المخلوق وأثبت المخلوق وأكّد أن نشهده إلهاً واحداً وأنه الخالق للمخلوق ولما يعمل ، فتدبّر الأمر تجده هكذا في كل الكائنات ، فما ثمّ إلا عبد وربّ ، وباطل وحدة الوجود وحقٌّ منه وحدة الشهود .
واعلم ياوليي في الله تعالى أعطاك الله العلم النافع أن من العلوم الإجماليّة في هذا المنزل والتي حوَت العلوم التفصيليّة التي يُفصّلها في غير هذا المنزل إجمال علوم الأسماء وفيه تلحظ إجمال علوم طيّ الأنوار .
ومن هذا المنزل أيضاً إجمال علوم الرحمة ، وتلحظ فيه إجمال علوم الامتنان وإجمال علوم الوجوب ، ومن هذا المنزل أيضاً إجمال علوم الجلال وإجمال علوم جلال الجمال وإجمال علوم الجمال ، وإجمال علوم الرموز وإجمال علوم التربيع وإجمال علوم الباطن وظهورها في حضرات ثلاثة هي باطن المُلْك وباطن المَلكوت وباطن الجَبَروت .
ومن علوم هذا المنزل إجمال علوم الظاهر المتفرّعة على علوم منازل التقرير ومنازل التقريب ومنازل الألفة ومنازل لام ألف ومنازل الألغاز والرموز ، ومنازل الاستخبار ومنازل الزمن ومنازل المكان إلى آخر تلك المنازل على عدد الظاهر في هذا المنزل .
ومن علوم هذا المنزل أيضاً إجمال علوم الخلّة وإجمال علوم المقام الإبراهيميّ وإجمال علوم التّكوين وإجمال علوم التّقدّس والتّطهر العبديّ ، وإجمال علوم الوصول وإجمال علوم الإضافة، فتعرِف في هذا الإجمال كيف أن العلوم نشأتْ كمثْلِ نشأةِ هذا المنزل على التربيع وعلمتَ أي الإجمالات العلميّة أضيفت إلى أي الإجمالات العلميّة الأخرى ، وهل العلوم الإجماليّة المضافة إلى علوم إجماليّة أخرى مُطْلَقة في العدد أو أنها مُعيّنة ، وإذا كانت مُعيّنة فكم هي من الواحد حتى التسعة ، وإذا وجدتها ثلاثة فقط فأيّ إجمالاتٍ من هذه الإجمالات الثلاثة في الإجمال الثالث ، وعرفت انطواء الإجمال الثالث في الثاني وعرفت انطواء الإجمال الثاني بكل مافيه في الأول .
ومن علوم هذا المنزل أيضاً علم انصباغ العلوم بالإضافة ومن أين يكون سرّ إضافة العلوم ولمن وكيف، حيث أنك لا تجد علماً يخرج عن الإضافة أبداً ، وتعرف سرّ العلم في المركب الواصل إلى الحقّ وأنه وقود ذلك المركب ، ومن أين أخطأ من قال إن العلم مركب واصل إلى الحقّ ، فإنك ترى علوماً ولكل علم طريق ، فطريق علم الرياضيات يختلف عن طريق علم اللغة ، فيوصلك كل علم إلى نهاية مختلفة لاختلاف نهايات تلك العلوم ، فعلمتَ سرّ تشتّت السالك عليها لأنه لا يصل إلى نهاية واحدة ، وبذاك لم يصحّ أن يكون العلم مركباً واصلاً وصح أن يكون وقوداً للمركب الواصل فهو الذي يعطي السالك إلى الله تعالى مراسم الاستمرار وكشف الطريق أمامه فإن معلومات العلم متمحورة حول محور واحد وهو أن صفة الله العليمة من كونه العليم صفة كاشفة .
ومن علوم هذا المنزل أيضاً إجمال علوم الروح وإجمال علوم قوانينها وإجمال علوم خصائصها السبع ، ومن هذا المنزل أيضا إجمال علوم الحبّ الموصل للربّ ، وإجمال علوم الكَونَين ، وإجمال علوم الثقلين ، وإجمال علوم الحضرة الجامعة للحضرات ،
وإجمال علوم الحكمة في الترتيب والتركيب، وإجمال علوم التجلّيات وإجمال علوم التنزّلات ، وإجمال علوم المعارج ، وإجمال علوم الكمالات ، وإجمال علوم العامّة ، وإجمال علوم الخاصّة .
ومن هذا المنزل أيضاً علوم مُجمَلة كثيرة إلا أنّي أدلّك على الإجمالات العلميّة الخمسة الأصليّة التي انبثقت عنها في هذا المنزل كل العلوم الباقية المُجملة والمفصّلة في منازل أخرى ، وهي أولاَ إجمال علوم الكمال وله الباطن ؛ و ثانياَ إجمال علوم الأسماء وهو أعمّ علوم الإجمال الظاهرة ، ومن هناك يكون نهر الماء في الجنّة ، و ثالثاً إجمال علوم جلال الجمال ومن هناك يكون نهر العسل في الجنّة ، و رابعاً إجمال علوم الرَحَمَات العامّة وهو يطال كل الكائنات مؤمنيها وكفارها ومن هناك يكون نهر الخمرة التي لا غول فيها في الجنّة ، و خامساً إجمال علوم الرَحَمَات الخاصّة وهذا يخص مؤمني العالم حصراً ومن هناك يكون نهر اللبن في الجنّة ، وعليه فقد صار إليك لمحة مُجمَلة عن هذا المنزل ولولا وارِد الوقت لفصّلنا أكثر فنترك لك الدخول إلى هذا المنزل ومشاهدة إكرامات الحقّ تعالى أكرمنا الله وإياكم .
والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل والحمد لله ربّ العالمين
( من رسالة المجددية الأولى في الإشارة عن الهياكل النورانية للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب ) .