باب في معرفة التعريف الإلهيّ الأحديّ من الحضرة الحرفيّة الأنائيّة
اعلم أيدك الله بتعريفات حروفه أن التّعريف مقامٌ إلهيّ أعلى منازله في الضياء الكريم قوله تعالى :
{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا {41} طه ، وقلنا أعلى منازله لأن التعريف هنا كان بالأنائيّة التي كان لها البداية والنهاية من اسمه الذاتيّ بتعريف من اسميه تعالى المقدّم والمؤخّر ، فالألِف من « أنا » لها البداية وهي جنّة العبد لمن شاء أن يتقدّم ، والألِف الثانية بعد النون هي للنهاية وهي جنّة العبد لمن شاء أن يتأخّر ، فكانت الأوليّة بلا بداية ، وكانت الآخريّة بلا نهاية ، وذلك لأنك إذا نظرت إلى الأنائيّة بعين { .. كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {33} الأنبياء ، تجد أن الألِف الثانية تعود على الأولى وأن الثانية عين الأولى بعد دورة الطواف التي أشارت إليها هنا النون من « أنا » راسمة بذلك فلك الذات الدائر حول النقطة ، ولما كان التكوين إنّما هو عن الحركة الأفقيّة ، فإنه من الألف الأولى إلى الثانية أوجد كل البدايات ، ومن الثانية إلى الأولى أوجد كل النهايات ، فإذا عرفتَ أنه الباقي الدائم عرفت أنه لا نهاية للتكوينات الحاصلة عن تجليات هذه الأنائيّة ، وبالتالي تجد أن جميع التكوينات التي هي مظاهر هذه الذات إنما هي أبديّة لا تنتهي قد أكسبها الفلك التي خرجت عنه الخلود أبداً ببقائيّة الأنا الصادرة عنه، فإذا فهمت هذا التعريف عرفت أن التكوين في العالمين إنما صدر عن تجليّ الأنا الجامع للأسماء المسمّاة بها صفات الأنا الذاتيّة ، التي عبّرعنها الله في القرءان الكريم في قوله تعالى :
{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .. {011} الإسراء ، فعرفنا هنا بانبثاق الأسماء عن الاسم « الله » وعن الاسم « الرحمن » ، وفي قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا .. {180} الأعراف ، حيث طوى هنا أنوار الأسماء الحسنى كلها بالـ « ها » وكانت الباء في هذه الآية هي الباء الداخِلة على الآلة ، فأنت تقول في اللغة العربيّة « كتبت بالقلم » و « أكلت بالملعقة » فالقلم هنا أداة الكتابة وآلتها ؛ والباء داخلة على القلم الذي هو الآلة فكانت الباء هي الداخلة على الآلة وكذلك الملعقة ، فالملعقة آلة الأكل؛ وباؤها الداخلة عليها هي الباء الداخلة على الآلة وهي نفسها دخلت على الها فعرفنا أن الها هي آلة ذكر الأسماء الحسنى كلها ، فالها هنا لا كما يتوهم اللغويّون بأنها ضمير متصل بل هي هنا اسم من أعظم الأسماء وذلك لتعريفها الأنا الإلهيّة التي طويت فيها أنوار الكلّ فشاكلت في الحرف عوالم الها من ها عوالم النون من أنا ؛ فشاكلت الألِف الألِف وغابت الألِف الأولى من أنا في الها وظهرت هناك لسرّ لطيف وهو أنّ التّعريف بأنا ذاتيّ المشهد ؛ بينما هنا في الها أسمائيّ المشهد ، وفرق كبير بين التّعريف الإلهيّ في المشهد الذاتيّ والمشهد الأسمائيّ، ففي الذاتيّ تعريف وحدة الكثرة ؛ وفي المشهد الأسمائيّ التعريف بالكثرة في الوحدة ، وفرق من يذكر بالأنا المعرِّفة ( بكسر الراء ) والذاكر بالها ؛ أنّ الذاكر بالأنا هذه متحقّق والذاكر بالها متخلّق؛ وفرق ما بين الذاكرَين أن الذاكر بالها عروجيّ المَطلع غايته الذات ونهايته أن يكون متحقّقاً بما وصل إليه الذاكر بأنا ، فالذاكر بأنا ثابت شهوده الذات الموصوفة بكل الصفات والأسماء دون تعيين لاسم أو صفة فتنبّه ! ولهذا خرجت عن الأنا حقائق الذات في حين لم تخرج عن الها إلا بكنّ التّكوين وسبب استغناء الأنا عن كنّ كلمة الحضرة أن الخارج عن الأنا إنما هو متحققات تلك الذات واسمع إن شئت قوله تعالى :
{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى {31} طه ، فالكاف من اخترتك هنا إنما هي حقيقة أنائيّة العبد التي تجلّت عليها أنا الحقّ بالاختيار وهي عين قوله تعالى « اخترت » والتاء المضمومة هنا تاء فاعلة خارجة عن الأنا ؛ ظاهرة في المَظهَر الذي هو العبد المخاطب بالكاف والذي هو هنا عين الكليم موسى عليه السلام ، فما ظهر في موسى إلا كونه كليما تجلت عليه ذاتيّة الأنا في اختيارها له كمَظهَر ، فإذا علمت أنه على الصّورة فما تجلى الأنا إلا على صورته التي اختارها مجلى لكلماته فحصل التعريف للصورة بعين التجلي الأنائيّ، فمن سمع الكلام من الصورة التي هي موسى عليه السلام فقد حصل له التعريف بأنه ظهور لتجليات الأنائيّة والتي هي الكلام وكان كلام الصورة هو كلام الأنا فمن سمع كلام موسى عليه السلام فما سمع إلا كلام الحقّ القائل أنا من وراء حجاب موسى فقوله :
{ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } تنبيه وأمر بالاستماع وما سمع حقيقة إلا لما تنبه له وهو ما خرج عن الأنا من تجليات وهو عين كلامه لموسى .
وأما التعريف لهذه الأسماء الحسنى فإنه كان بالألف واللام فإن سألت أي الاسمين هو للحقّ ؟ هل هو هادي أم الهادي؟ أجبتُ أنّه الهادي لوجود الألف واللام فيه ، فقد جاز للعبد أن يسمّى برؤوف ورحيم كما وصفه الله تعالى في قوله :
{ .. بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {821} التوبة ، وقد جاء بالاسمين هنا بلا ألف ولام فتميّزت الأسماء الإلهيّة بالتعريف لشدّة ظهور أنا الذات بها وقد حدث أنّني كنت يوماً في حلب الشهباء في السابع من ربيع الثاني عام ألف وأربعمائة وتسعةٍ وعشرين للهجرة جالساً بين جمع من صحبي فإذا بالأستاذ محمد نور أرمنازي يسألني عن سرّ في سورة الإخلاص وهو عدم ظهور هذه الألف واللام في قوله تعالى قل هو الله أحد، فإن لفظة الأحديّة هنا ظهرت بعد اسم الذات مجردة عن الألف واللام ، فأجبتُه من هذه الحضرة وقلتُ بأنّ الأحديّة الإلهيّة امتنعت بذاتها أن تتجلى بالتجلي الأحدي لأن الأحديّة هي الذات الموصوفة بالأوصاف المسمّاة بالأسماء دون تعيين لهذه الكثرة في ذات الأحديّة ؛ فالأحديّة محض الذات الكاملة غير المتعيّن فيها تفصيل بتوحّد كمالات الذات بوجودها الصرف وهذا يؤدي لذاتيّة الأحديّة لهذا الكمال إلى امتناع كون العبد مظهرا للأحديّة وإلا لكان هو الربّ ، وهذا غير ممكن فالربّ ربّ والعبد عبد فانتفى بذلك التّعريف وكانت الحكمة الإلهيّة أن تكون الآية واصفة للأحديّة في قوله :
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} الإخلاص ، ويكون الاسم بلا أل التعريف ، ولهذا السرّ افتتح الآية بالهويّة التي هي اسم الذات المضمر الحاوي للصفات والأسماء ثم أتبعها باسم الذات الظاهر الحاوي للصفات والأسماء ليوحد كلا الاسمين في الظهور والإضمار في أحديّة واحدة ولولا هذا السرّ في الأحديّة لما سأل من سأل عن نسب الربّ ففي حين يحصل التعريف بأل كان التعريف بنسب الربّ هنا بتجريد الأحديّة عن الأل بلفظة أحد أكمل في التعريف عن الذات الواجبة الوجود الذاتي فتنبه فالذي يحصل عادة أن ما اشتد ظهوره يكون في منتهى الوضوح ولا يُجهل ، ولسرّ الأحديّة هنا جهل نسبها بالرغم من شدة ظهورها فطلبوا رفع هذا الجهل وما فهموا سرّ التعريف هنا وأن الأحديّة لا تُنسب ، فإن النسب نسبة من المنسوب إلى من ننسب ولا وجود لهذه الحضرة أصلا في أحديّة الوجود المحض والذاتيّ لهويّة الله الأحد وأشار إلى عدم هذه النسبة مع الأحديّة بقوله تعالى :
{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4} الإخلاص ، فحصل بذلك التعريف الذي لا يكون الإخلاص إلا به .
والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل والحمد لله رب العالمين
( من رسالة المجددية الأولى في الإشارة عن الهياكل النورانية للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب ) .