الْغَرَقُ وَالْأدْلَجَةُ الرُّوحِيَّةُ
مِمَّا سَبَقَ مِنْ قَوَانِيْنِ الذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ نَجِدُ في مَنْظُومَاتِ الْوَعْيِ الَّتِيْ شَكَّلَتْهَا الْحَضَارَاتُ الْكَوْنِيَّةُ كُلُّهَا عُلْوِيُّهَا وَسُفْلِيُّهَا إنَّمَا تَتَكَلَّمُ عَنْ حَقِيْقَةِ الْغَرَقِ .. فَكَمَا أنَّهُ هُنَاكَ غَرَقٌ فِي الْمَفَاسِدِ وَغَرَقٌ فِي الشَّهَوَاتِ أيْضَاً هُنَاكَ غَرَقٌ فِي النُّورِ وَغَرَقٌ فِي الْحُبِّ الْإلَهِيِّ وَالتَّقْدِيْسِ الْأعْلَى .. وَشَواَهِدُ تَارِيْخِ الْكَوْنِ كَثيْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ .
مَصَادِرُ الدِّيْنِ الْإسْلَامِيِّ تُؤَكِّدُ أنَّ النَّفْسَ مُسَوَّاةٌ مُلْهَمَةٌ بِالْفُجُورِ كَمَا هِيَ مُلْهَمَةٌ بِالتَّقْوَى ، وَأنَّ الْمَطْلُوبَ الْفَلَاحُ فِي ارْتِقَائِهَا الْاتِّقَائِيِّ فِي حِين أنَّ تَوَسُّعَهَا الْفُجُورِيَّ إنَّمَا هُوَ مُهْلِكٌ لَهَا .
وَمِمَّا سَبَقَ نَجِدُ أنَّ الذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ مُتَجَسِّدَاً بِقَانُونِ الْاسْتِغْرَاقِ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى رُوحٍ نَقِيَّةٍ صَادِقَةِ الْجَوْهَرِ لِتَكُونَ تَوَهُّجَاتُ حَيَاتِهَا ذَاتَ وَعْيٍ إيْجَابِيٍّ صَالِحٍ .
وَمِنْ هُنَا كَانَ لَابُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ قَانُونِ الْانْفِعَالِ مَعَ قَانُونِ الْاسْتِغْرَاقِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ جَلَّ وَعَلَا فَإذَا بِهِ يُرْسِلُ الشَّرَائِعَ لِتَحْقِيْقِ قَانُونِ الْانْفِعَالِ فَيُحَرِّضُ الْفَاعِلِيَّةَ الْإدْرَاكِيَّةَ فِي الْوَعْيِ بِبِناَءٍ إيْجَابِيٍّ حَتَّى إذَا تَحَقَّقَ الذَّكَاءُ الرُّوحِيُّ بِحَقِيْقَةِ قَانُونِ اسْتْغْرَاقِهِ كَانَ الْوَعْيُ الرُّوحِيُّ وَعْيَاً سَلِيْمَاً فَأفْرَزَ رُوحَاً سلِيْمَةً تَأتي إلَى اللهِ بِقَلْبٍ سَلِيْمٍ عنْ سِرٍّ سَلِيْمٍ .
هَذِهِ الْحَقِيْقَةُ الَّتِيْ أذْكُرُهَا هُنَا وَعاهَا كُلُّ وَعْيٍ فَعَمَّ وَعْيٌ جَمْعِيٌّ يُؤَكِّدُ هَذِهِ الْحَقِيْقَةَ فَتَرَى كُلَّ الْبَشَرِ عَلَى اخْتِلَاِف مُسْتَوَيَاتِ وَعْيِهِمْ وَفَعالِيَّةِ إدْرَاكِهِمْ فِيْ ذَكَائِهِمُ الرُّوحِيِّ إنَّمَا يُمَارِسُونَ هَذِهِ الْقَوَانِيْنَ عَلَى أطْفَالِهِمْ .
فَالْقِيَمُ النَّصْرَانِيَّةُ تُمَاهِيْ الذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ عِنْدَ الطِّفْلِ فَتُنَصِّرُهُ .
وَالقِيَمُ الْيَهُودِيَّةُ تُمَاهِيْ الذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ عِنْدَ الطِّفْلِ فَتُهَوِّدُهُ .
وَالْقِيَمُ الْإسْلَامِيَّةُ تُمَاهِيْ الذَّكَاءَ الرُّوحِيَّ عِنْدَ الطِّفْلِ فَتُؤَسْلِمُهُ .
وَهَذَا الْأمْرُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْأدْيَانِ .
فَالْقِيَمُ النَّصْرَانِيَّةُ بِقَانُونِ الْانْفِعَالِ يَنْفَعِلُ لَهَا الْإدْرَاكُ فَإذَا بِالذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ بِقَانُونِ الْاسْتِغْرَاقِ يَتَنَصَّرُ .
وَالقِيَمُ الْيَهُودِيَّةُ بِقَانُونِ الْانْفِعَالِ يَنْفَعِلُ لَهَا الْإدْرَاكُ فَإذَا بِالذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ بِقَانُونِ الْاسْتِغْرَاقِ يَتَهَوَّدُ .
وَالْقِيَمُ الْإسْلَامِيَّةُ بِقَانُونِ الْانْفِعَالِ يَنْفَعِلُ لَهَا الْإدْرَاكُ فَإذَا بِالذَّكَاءِ الرُّوحِيِّ بِقَانُونِ الْاسْتِغْرَاقِ يُسْلِمُ .
وَبِالرَّغْمِ مِنْ أنَّ هَذِهِ الْآلِيَّةَ تَظْهَرُ وَكَأنَّهَا مِيْكَانِيْكَاً بِالْفِعْلِ وَرَدِّ الْفِعْلِ إلَّا أنَّنَا فِي وَعْيِنَا الْحُرِّ وَبِقَانُونِ الْإطْلَاقِ لَا يَجِبُ أنْ نَتَجَاوَزَ هَذِهِ الْحَقِيْقَةَ لِأنَّهَا جُزْءٌ مِنْ وَاقِعِنَا ، وَذَاتِيَّةٌ فِي ذَكَائِنَا الرُّوحِيِّ ، وَحَقِيْقَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى مُسْتَوَى وَعْيِنَا الشَّخْصِيِّ .
( نقلاً عن كتاب علم الذكاء الروحي للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .