الوَحدَةُ والكَثرَةُ
الوَحدَةُ أنْ لا تَرى غَيرَ الحَقِّ، والكَثرَةُ أنْ تَشهَدَ تَجلِّياتِهِ في المَظاهِرِ، فَمَا ثَمَّ إلَّا كُنْه الهُوِيَّةِ المُطلَقُ .
كُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ وَاحِدُ الوجُودِ .
وتَجلِّياتُه الحَياتِيَّةُ وَاحدَةٌ في الوجُودِ مِنْ كَونِها قَائِمةٌ بِهِ وَلَكِنَّها مُتعدِّدةٌ بالنِّسَبِ التِي لِكلِّ تَجلٍّ منها .
فإنَّ كُلَّ تَجلٍّ لَهُ نِسبةٌ مُعيَّنةٌ إلى وُجودِهِ عَنْ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ .
وبِهذِه الحَقِيقةِ قَامَت وَحدَةُ الشُّهودِ لِتُلغِيَ في التَّجلِّياتِ وفي الكَثرَةِ وَحدَةَ الوجُودِ، لِتَبقَى وَحدَةُ الوجُودِ لِلكُنْهِ وتَستقِلَّ وَحدَةُ الشُّهودِ بِالتَّجلِّياتِ المُتوَهِّجةِ عَنْ حَياةِ هذَا الكُنْهِ .. وبِالتالِي فَلَيسَ في الحَقِيقةِ إلَّا وَحدَةُ شُهودٍ في هذَا الوَجهِ الظاهِرِ في العَالَمِ الخَارِجيِّ المَعقُولِ .
ولَيسَ في الحَقِيقةِ إلَّا الوجُودُ المَحضُ الوَاحِدُ لِكُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ .
وَكُلُّ مَنْ يَشهَدُ مِنَ النَّاسِ إنَّمَا يَشهَدُ وَحدَةَ شُهودٍ، شاءَ مَنْ شَاءَ وأبَى مَنْ أبَى لأنَّ وَحدَةَ الشُّهودِ هيَ الحَقِيقةُ المَشهُودةُ في الظاهِرِ .
أمَّا مَنْ يَقولُ في الظاهِرِ بِوَحدَةِ الوجُودِ فَقَد تَزَندَقَ لأنَّه أنكَرَ الكَثرَةَ المَشهُودَةَ النِّسبيَّةَ، فهوَ بِذلكَ يَكونُ قَد خَلَطَ حُكمَ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ في البَاطِنِ مَعَ شُهودِهِ لِلكثرَةِ المَشهُودَةِ في الظاهِرِ، فَأسقَطَ مَا لِلكُنْهِ على مَا لِتَوَهُّجِهِ، أَسقَطَ مَا لِلهُوِيَّةِ المُطلَقةِ مِنْ حُكمٍ على مَا لِلتَّوَهجِ الحَياتِيِّ لِقدرَةِ هذِه الهُوِيَّةِ؛ فَاصدَرَ حُكمَاً على الصِّفةِ والتِي هيَ الحَياةُ على ذَاتِيَّتِها التِي هيَ الهُوِيَّةِ الذاتِيَّةِ، وليسَ في العَقلِ اعتبار حُكم الذاتِ كَحُكمِ الصِّفةِ .
وهذَا خَطأٌ كَبيرٌ لأنَّه يُلغِي تَوَهجَ الهُوِيَّةِ، وبِالتالِي يُلغِي عَنِ الهُوِيَّةِ صِفةَ الحَياةِ .
فَالحَقِيقةُ الصِّرْفَةُ أنْ تَشهَدَ الوَحدَةَ في الكَثرَةِ، والكَثرَةَ في الوَحدَةِ؛ أيْ : أنْ تَشهدَ الوَحدَةَ في الكَثرَةِ في شَأنِ التَّوَهجِ، والكَثرَةَ في الوَحدَةِ في شَأنِ الهُوِيَّةِ .
أيْ : أنْ تَشهَدَ الوَحدَةَ في الكَثرَةِ في شَأنِ التَّوَهجِ في تَفصِيلِ الظاهِرِعَنِ الهُوِيَّةِ، والكَثرَةَ في الوَحدَةِ في شَأنِ الهُوِيَّةِ في اكتِنَازِ التَّفصِيلاتِ مُجمَلَةً في البَاطِنِ .
فَالكَثرَةُ مَشهُودةٌ لِلعقلِ فَهيَ مَعقُولَةٌ لا وجُودَ لَها في عَالَمِ الحَقِيقةِ الذاتِيَّةِ، بَل لَها وجُودٌ في النِّسبَةِ، بَينَمَا الوَحدَةُ مَوجُودةٌ شَرعاً وحَقِيقةً. فَكُلُّ مَخلُوقٍ مَنسُوبٌ إلى وُجودِهِ الخَاصِّ فَيَظهرُ وكَأنَّه مُستقِلٌ بِذاتِهِ، بَينَمَا هوَ لا يَقومُ بِنفسِهِ بَل هوَ قَائمٌ بِغَيرِهِ، ومَا ثَمَّ غَيرُ ذَاتيِّ الوجُودِ فما ثم إلَّا الحَقُّ، فَعَلِمَ العَقلُ أنَّ المَخلوقَ قَامَ بِالحَقِّ . فَالمَخلُوقُ قَائمٌ بِكُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ، يَستمِدُّ مِنه الحَياةَ الوجُوديَّةَ الضَّرُوريَّةَ لِوجُودِهِ، وَلَكِنَّ المَظهَرَ يَشعُرُ بِاستِقلَالهِ وَانفِرَادِه لِحَقِيقةٍ سَرَتْ فِيه – عِندَ تَوَهجِ الكُنْهِ والذِي هوَ حَقِيقتُه – هذِه الحَقِيقةُ هيَ حَقِيقةُ أنَّ الكُنْهَ مُطلَقٌ فَردٌ لامَثَلَ لَهُ .
فَالكُنْهُ وَاحِدٌ، والكَثرَةُ مَشهُودةٌ بِعَينِ العَقلِ لأنَّه يَقبَلُ النِّسَبَ المُستَقِلَّةَ، وَلا نَنسَى أنَّ النِّسبَةَ أمرٌ عَدَميٌّ؛ إذ العَقلُ يُوهِمُ نَفسَهُ بِاستِقلالِ هذِه المَشهُوداتِ وَيُرغِمُ كَيَانهُ على التَّفَاعُلِ مَعها على أنَّها مُستَقِلةُ الذاتِ، وهيَ في عَينِ النِّسبَةِ العَدَمِيَّةِ .. وهذَا يُوَضِّحُ تَماماً لِمَاذا كانَ أصلُ الأديَانِ كُلِّها إنَّمَا يَعتمِدُ على حَقائِقِ الرُّوحِ، مِنْ كَونِها قَاعِدةٌ أسَاسيَّةٌ لِلنصُوصِ تَقومُ عليها مُحاكَماتُ العَقلِ مِنْ تَركِيبٍ وتَحلِيلٍ وتَرجِيحٍ .
إنَّ وَاحِدِيَّةَ الكُنْهِ، دُونَ حُدوثِ أيِّ تَغييرٍ في ذَاتِهِ، لَهُ دَورُ التَّعدُّديَّةِ في الخَلِيقةِ، وَهِيَ تَنوُّعُ تَجلِّي كُنْهِ الهَوِيَّةِ .
إنَّ تَجلِّيَّ المُطلَقِ في النِّسبيَّةِ، أيْ أنْ تَبدوَ الآحَاديَّةُ الذاتِيَّةُ مُتعدِّدةَ التَّجلِّياتِ، هوَ ليسَ إلَّا شَأنُ الحَقِيقيةِ الذاتِيَّةِ المُطلَقةِ لِكُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ، والتِي تَظهَرُ في تَجلِّياتِ الظهُورِ المُختَلِفةِ .
لِهذَا السَّببِ وحِينَمَا يَكونُ المُطلَقُ أبدِيَّاً قُدُّوسَاً لا يَتَغيَّرُ، يَكونُ التَّنوُّعُ النِّسبِيُّ لِلخلقِ أبَديَّاً بِمَظاهِرَدَائمَةِ التَّغيُّرِ .
عَلينا أنْ نُرَسِّخَ في ذِهنِنَا أنَّ الخَلقَ الظاهِرَ وكُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ البَاطِنَ، وبِالرَّغمِ مِنْ أنَّهمَا يَبدُوانِ مُختَلِفانِ لِلعَقلِ، إلَّا أنَّهمَا في الحَقِيقةِ كُنْهٌ وَاحِدٌ بِذاتِهِ .
إنَّ حَقِيقةَ الإثنَيْنِيَّةِ في النِّسبَةِ بَينَ الظاهِرِ والبَاطِنِ هيَ مِنْ حَقِيقةِ التَّوحِيدِ الذاتِيِّ .
وبِالرَّغمِ مِنْ وجُودِ الاختِلافَاتِ في مَيِّزَاتِهما، إلَّا أنَّ كُنْهَ الهُوِيَّةِ المُطلَقَ وتَجلِّياتِهِ النِّسبيَّةِ في مَظاهِرِ المَخلُوقِ كِلَيهِمَا يُشكِّلانِ الحَقِيقةَ الوَاحِدَةَ .
إنَّ الشَّأنَ الشَّامِلَ لِمَا نَفهَمُه حَولَ الخَلقِ والتَّطوُّرِ هوَ مَحضُ شَأنِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ في طَاقةِ الحَياةِ المُتجَلِّيةِ عَنْ تَوَهجِ الذاتِ القَادِرَةِ، وَيَرجِعُ التَّغيِّيرُ إلى الشَّأنِ الحَقِيقيِّ لِلكَيَانِ، والذِي هوَ التَّلوِينُ ( أيْ كُلَّ يَومٍ هوَ في شَأنٍ ) .
ولِتَعلَمْ يَا وَلِييِّ في اللهِ تعَالى أنَّ قُدرَةَ الخَلقِ مِنْ شَأنِ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ، والخَلقُ هوَ تَوَهُّجُ طَاقَتِها الحَياتِيَّةِ، والتَّطَوُّرُالعَقلِيُّ الذِي نَشهَدُه هوَ تَتَابُعُ تَوَهُّجِ الهُوِيَّةِ في كَينُونَتِها.
فَمَا نَرَاه تَطوُّراً لِلصُّورِ إنَّمَا هوَ تَتَابُعُ ظهُورِتجلِّياتِ الدَّفْقِ الحَياتِيِّ المُتوَهِّجِ عَنِ الكُنْهِ .
هكَذَا يُمكِنُنا القَولَ إنَّ طَاقةَ الحَياةِ هيَ شَأنُ كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ والقُوَّةُ المُحرِّكةُ لِلخلقِ؛ وعَليهِ تَكونُ القُوَّةُ الأسَاسِيَّةُ لِلعَقلِ .
( من كتاب الهوية للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .