الهُوِيَّةُ هيَ قَيُّومَةُ الخَلقِ بِحيَاتِها الذَّاتِيَّةِ – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

الهُوِيَّةُ هيَ قَيُّومَةُ الخَلقِ بِحيَاتِها الذَّاتِيَّةِ

تُبْلغُنا علومُ الفِيزيَاءِ أنَّ الخَلِيقةَ كُلَّها مَبنيَّةٌ مِنْ طَبقاتٍ مِنَ الطاقةِ المُتدَاخِلةِ في بِعضِها البَعضِ .

تُكوِّنُ الطبقةُ الألطَفُ في عُمقِ مِحوَرِ الخَلقِ وتَبنِي حولَ نفسِها صِفاتٍ مُختلفةٍ لِتصبِحَ أكبرَ فَأكبرَ .

تُشيرُ الاكتِشافاتِ الحَديثَةِ في الفِيزيَاءِ إلى وُجودِ الأشكالِ المُختلفةِ مِنَ الجُسيمَاتِ الدَّقِيقةِ البِدَائيَّةِ في أسَاسِ كُلِّ الخَلقِ .

إنَّ مَجموعةَ الجُسيمَاتِ الدَّقِيقةِ البِدَائيَّةِ هيَ في تَكَاثُفٍ مُستمِرٍ لِتُظهِرَ أنَّ الخَلِيقةَ مَوجُودةٌ في طبقاتٍ لا تُعدُّ ولا تُحصَى مِنَ الطاقةِ .

تُعطِي الجُسيمَاتُ الدقيقةُ النيُوترُوناتِ والبُروتُوناتِ التِي يَتكوَّنُ منها نَواةُ الذَّرَّةِ، والتِي بِدورِها تَتَحوَّلُ إلى ذرَّةٍ كاملةٍ بدَورَانِ الإلكترونَاتِ حَولَها .

وتُكوِّنُ الجُزيئاتِ، ومِنَ الجُزيئَاتِ تتَكوَّنُ مُختلفِ الأشكالِ الظاهِرةِ فَتُشكِّلُ الكونَ المَنظُورَ كُلَّه، هكذَا يَكتشِفُ عِلمُ الفِيزيَاءِ الطَّبقاتِ اللطيفةَ في الخَلقِ .

كانَ هُناكَ زَمَنٌ أعلَنَ فيهِ عِلمُ الفِيزيَاءِ بأنَّ المَادَّةَ لا تتجَزَّأُ بسببِ الاعتِقادِ الذِي كانَ سَائِداً بأنَّ الذَّرَّةَ هيَ أسَاسُ المَادةِ وأنَّها لا تَتَجزَّأُ، ولكِنْ مَعَ تَقدُّمِ التَّجاربِ في حَقلِ الفيزيَاءِ تَمَّ تَقسِيمُ الذَّرَّةِ واكتِشافُ عَالَمٍ آخَرَ، فقَد أعطَى البَحثُ في نَواةِ الذَّرَّةِ عِلمَ الفِيزيَاءِ النَّوويَّةِ، كَمَا أعطَى البَحثُ في حَقلِ الإلكترونَاتِ عَالَمَ الإلكترونِيَّاتِ .

لَقَد سَاعدَت المَعرِفةُ النَّاميةُ في هذِه المَيَادينِ في تَقدُّمِ قُدرَاتِ الإنسانِ بِخُطواتٍ كَبيرَةٍ لَمْ يَكُنْ يَتَخيَّلُها قبلَ سَنواتٍ قَليلةٍ .

كُلمَا تزَايدت مَعرِفتُنا لِلحقولِ المُرهَفةِ لِلخلقِ، كُنَّا أكثرَ قُوَّةً في الحَياةِ .

أمَّا مَا وراءَ الطبقاتِ اللطيفةِ لِكُلِّ مَا هوَ مَوجودٌ في الوَجهِ النِّسبيِّ في مَساحَاتِ فَضَاءِ كَيانِنا التَّفَكُّرِيِّ الذِي هوَ بَوابةُ العَمَاءِ ( مُستوَى الاسمِ الرَّبِّ ) فَيُوجدُ الكُنْهُ المُطلَقُ لِلهُوِيَّةِ الذاتِيَّةِ المُقدَّسةِ الذِي هوَ غَيرُ ظاهرٍ بَل بَاطِنٌ وعُبورِيٌّ، إنَّه ليسَ مَادةً ولا طَاقةً ، الكُنْهُ المُقدَّسُ وُجودٌ مَحضٌ .

فَيُحيطُ الكُنْهُ المُطلَقُ لِلهُوِيَّةِ الذاتِيَّةِ المُقدَّسةِ وراءَ كُلِّ مَا هوَ مَوجُودٌ .

إنَّ كُلَّ شَيءٍ هوَ التَّعبِيرُ الحَياتيُّ لهذَا الوجُودِ الطَّاهِرِالظاهِرِالذِي هوَ الكُنْهُ المُطلَقُ لِلهُوِيَّةِ الذاتِيَّةِ المُقدَّسةِ الأسَاسيُّ  لِكُلِّ الحياةِ النِّسبيَّةِ التِي يُدرِكُها الكَيانُ التَّفَكُّرِيُّ .

إنَّ الكُنْهَ المُطلَقَ للهُوِيَّةِ الذاتِيَّةِ المُقدَّسةِ المُفرَدةِ والأبَديَّةِ والمُطلَقةِ وغَيرِ الظاهِرَةِ إلَّا مِنْ وَرَاءِ حُجُبِ القَيدِ الحَياتِيِّ – القَيدُ الحَيَاتِيُّ : الذِي نُسمِّيهِ آيَةً –  يُظهِرُ ذاتَه بِتجلِّياتٍ مُختلفةٍ مِنَ الحَياةِ والوجُودِ في آياتِ الخَلقِ .

وكُلَّمَا ازدَادَت مَعرِفتُنا لِلمستَوياتِ المُرهَفةِ لِلوجُودِ، أفاد مِنْ هذِه المَعرِفةِ ونَمَا وَعيُنَا في فَهمِ الحياةِ، فَتصبِحُ حَياتُنا أكثرَ وُضوحَاً وأكثرَ قوَّةً وأكثرَ إفَادةً وأكثرَ إبدَاعَاً؛ وتَزدَادُ طُمُوحاتُنا أيضَاً في الوصُولِ إلى الكَمَالِ .

كذَلكَ إنَّ مَعرِفةَ الهُوِيَّةِ الذاتِيَّةِ أنَّها حَقِيقةٌ أسمَى قَامَ بها الخَلقُ يَرفعُ مُستوياتِ النواحِيَ المُختلفةِ للحياةِ إلى مُستوَى الوجُودِ المُطلَقِ غَيرِ المَحدُودِ، فَتَستَشِفُّ الحياةُ النِّسبيَّةُ مَعرِفةَ المُستوَى المُطلَقِ، وبِناءً عليهِ يَعُمُّ الثبَاتُ والدَّيمُومةُ في المَجالِ النِّسبيِّ الذِي يُدرِكُه الكَيانُ التَّفَكُّرِيُّ في عِبادةِ التَّفَكُّرِ . 

تَرتفعُ الطاقةُ والذكَاءُ والإبدَاعُ إلى قِيمَتِها غَيرِ المَحدودةِ فَتَفنَى مُستَهلَكَةً في الحَقِيقةِ، فَتَكسبُ مَحدودِيَّاتُ الحياةِ الفَرديَّةِ صِفةَ الوجُودِ الكَونِيِّ غَيرِ المَحدُودِ، وذَلكَ تَعوِيضاً لَطِيفيَّاً مِنَ الهُوِيَّةِ الذاتِيَّةِ وبِهذَا يَكتسِبُ العَارفُ مَجْدَ الاكتِشافِ بِأنَّ الهُوِيَّةَ الذاتِيَّةَ هيَ مَا تقومُ بهِ خَلْقِيَّتُه الفَانيةُ في حَقيقَتِها فَلَا يَعِي بعدَها إلَّا تَجلِّياتِ حَياةِ الكُنْهِ فَلَا يَستطِيعُ النُّطقَ إلَّا بِـ هوَ الحَيُّ .

 


( من كتاب الهوية للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى