النُّقطَةُ الْمَكَانِيَّةُ لِلِقَاءِ الْخَضِرِ بِمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
الْخَضِرُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَشَرٌ مِثْلُنَا مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ وَلَيْسَ مَلَاكَاً ، الْتَقَى بِسَيَّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْأرْضِ فِيْ مَكَانٍ غَيْرِ مُحَدَّدٍ شَرْعَاً إلَى يَومِنَا هَذَا وَالْكَلَامُ فِيْهِ حَالِيَّاً كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ بِالدِّرَاسَةِ التَّارِيْخِيَّةِ وَلَيْسَتْ بِالدِّرَاسَةِ التَّشْرِيْعِيَّةِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : كَانَ اللِّقَاءُ فِي طَنْجَة عِنْدَ مَضِيْقِ جَبَلِ طَارِقٍ بِاعْتِبَارِ البَحْرَيْنِ هُمَا الْبَحْرُ الْمُتَوَسِّطُ وَالْمُحِيْطُ الأطلَسِيُّ وَهَذَا أمْرٌ بَعِيْدٌ جِدَّاً .. وَلَكِنْ هُنَاكَ مَنْ يُصِرُّ عَلَى ذَلِكَ بِلَا دَلِيْلٍ .
وَهُنَاكَ مَنْ يَقُولُ : أنَّ اللَّقَاءَ كَانَ عِنْدَ مُلْتَقَى الْبَحْرِ الأحْمَرِ بِالمُحِيْطِ الْهِنْدِيِّ عِنْدَ مَضِيْقِ بَابِ الْمَنْدَبِ وَهَذَا أيْضَاً بِلَا دَلِيْلٍ .
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الشَّامِ كَمَا نَرَاهُ وَلَيْسَ هُنَاكَ أدِلَّةً قَطْعِيَّةً أنَّ المِصْرِيِّينَ الْقُدَامَى كَانُوا يُسَمُّونَ النِّيلَ ( بَحْرَ النِّيْلِ ) وَلِذَلِكَ يَتَرَجَّحُ أنَّ اللِّقَاءَ كَانَ عَلَى أحَدِ مَفَارِقِ دِلْتَا مِصْرَ بَيْنَ التِقَاءِ بَحْرِ النِّيلِ بِتَعْبِيرِ الْمِصْرِيِّيْنَ القُدَامَى بِالْبَحْرِ الأبْيَضِ الْمُتَوَسَّطَ .. وَهَذَا مَا أرْتَاحُ لَهُ لِقَولِهِ تَعَالَى فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا .. {61} سُورَةُ الْكَهْفِ .
فَكَلِمَةُ ( بَيْنِهِمَا ) هُنَا لَهَا دَلَالَةٌ فِي الْمَوقِعِ وَهَذَا أمْرٌ لَايَكُونُ إلَّا فِي حَالِ الدِّلْتَا ؛ حَيْثُ يَكُونُ جَمْعُ الْبَحْرِ الأبْيَضِ الْمُتَوَسِّطِ بِجَمْعِ بَحْرِ النِّيلِ لَيْسَ مِنْ مَفْرَقٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْ مَفْرَقَيْنِ فإَذَا بِمِنْطَقَةٍ بَيْنَ الْمَفرَقَينِ هِيَ ( بَيْنَهُمَا ) { .. مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً {60} فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا .. {61} سُورَةُ الْكَهْفِ .
وَبِذَلِكَ تَمَّ الْوَصْفُ أنَّهُ مَجْمَعُ بَحْرَيْنِ وَمَجْمَعُ بْيْنَهُمَا وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِهَذِهِ الْجُغْرَافِيَّةِ بِيْنَ الْبَحْرِ وَالدِّلْتَا وَاللهُ أعْلَمُ حَيْثُ لَا يُوجَدُ دَلِيلٌ قَطعِيٌّ بِشَكْلٍ خَاصٍّ وَكُلُّ هَذَا تَحْلِيْلُ عُلَمَاءَ وَ أظُنُّنِي أصَبْتُ فِي تَحْلِيْلِي هَذَا .
وَتَجْدُرُ الإشَارَةُ هُنَا إلَى مَا يُقَالُ عَنْ نُقْطَةِ اللِّقَاءِ حَيْثَ جَلَسَ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَيِّدُنَا يُوشَعُ بِنْ نُون لِلِاسْتِرَاحَةِ مِنْ كَونِهَا عَيْنُ مَاءِ الْحَيَاةِ فَأقُولُ : نَعَمْ هُوَ هَكَذَا .. وَلَكِنْ لَيْسَ بِالْفَهْمِ الْمَادِّيِّ الَّذِي يُرَوِّجُ لَهُ النَّاسُ أو يَفْهَمُونَهُ بِمَادِّيَّتِهِمْ وَحُجُبِهِمْ ، وَلَكِنَّ الْحَيَاةَ الْحَقِيْقِيَّةَ مِنْ نَبْعِهَا الذَّاتِيِّ الَّذِي هُوَ مَكُانٌ يُجْمَعُ فِيْهِ بَحْرُ الشَّرِيْعَةِ مَعَ بَحْرِ الْحَقِيْقَةِ ؛ فَلَا حَيَاةَ دَائِمَةً إلَّا بِالْتِقَاءِ هَذَيْنِ الْبَحْرَيْنِ ، وَكُلُّ مَنْ جَمَعَ هَذَيْنِ الْبَحْرَيْنِ فَهُوَ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ وَهُوَ نَبْعُ الْحَيَاةِ وَلَهُ الْبَقَاءُ بِاللهِ تَعَالَى كَما أجْمَعَ الْعَارِفُونَ .
فَالْمَسْألَةُ هُنَا مَسْألَةٌ رُوحِيَّةٌ تَتَجَاوَزُ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ الْمَادِّيَّيْنِ .
وَلَكِنْ عِنْدَمَا قَصُرَتْ أفْهَامُ النَّاسِ عَنْ ذَلِكَ ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إلَّا الْفَهْمَ الْمَادِّيَّ ، فَقَالُوا أنَّ نَبْعَ الْحَيَاةِ هُنَاكَ حَيْثُ جَلَسَ الْخَضِرُ ، وَأنَّهُ مَازَالَ هُنَاكَ .
( من كتاب علم الحقائق البرزخية بين الحضرتين الموسوية والخضرية للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب ) .