المَادَّةُ وكُنْهُ الهُوِيَّةِ المُطلَقُ
إنَّ تَكَاثُفَ الوَعيِ الحَياتِيِّ بِلَا حُدودٍ يُحقِّقُ وجُودَاً مَحضَاً .
بِصِيغَةٍ ثَانِيةٍ : أي أنَّ إطلَاقَ الحياةِ بِدَفْقِها الأعظَمِيِّ يَجعلُ مِنَ النُّورِ الحَياتِيِّ نُوراً شَدِيداً مُطلَقاً لِدَرجَةِ الظهُورِ الكَاملِ المُتحَقِّقِ، فإذا بِهِ يَظهَرُ مُتوَحِّداً في ذاتِهِ لِدَرجَاتٍ عَاليةٍ مِنَ الوجودِ، فإذا بهِ يَنطَلِقُ في تَعيِّنَاتِهِ إلى التَّجَسُّمِ ثُمَّ التَّجَسُّدِ، فإذا بِالمَادةِ تَظهَرُعَنْ تَوَهُّجِ تِلكَ الحَياةِ .
فَالمَادةُ هيَ مَفْعَمُ الظهُورِ الوَاعِي الحَياتِيِّ لِشدَّةِ إطلَاقِه، لِذلكَ وَصفَهُ الحَقُّ في القرآنِ الكريمِ بِالحَقِّ؛ فَقَد قَالَ : { .. هـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً … {110} يوسف ، فمَا كانَ رُؤيَا هيَ ظهُورٌمَعنَويٌّ في رُوحِ نَبِيٍّ صَارَ تَجسُّمَاً وتَجسُّدَاً مَاديَّاً يَعِيهِ العَقلُ بِاستِقلَالِه في ظَاهرِ الوجُودِ الحَياتِيِّ، وَقَد سَمَّاهُ هنَا الرَّبُّ : حَقَّاً؛ بِألفِ إطلَاقٍ مُنوَنَةٍ فيها صَدَى الوجُودِ .
وَلَعلَّ مِنْ أجمَلِ عِرفَانِ هذِهِ الحَقِيقةِ أنَّ المَادةَ هُنا لا تُوصَفُ بِالقِدَمِ لأنَّها تَقيَّدَت بِالتَّجسِيمِ والتَّجسِيدِ، فَعَادَت ظهُورَاً في التَّوَهجِ وصَارَت في عِدَادِ الكَثرَةِ المَشهُودَةِ .
لِذلكَ أقولُ : أخطَأَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى أُلُوهيَّةَ المَادةِ وقِدَمَهَا، فهوَ لَمْ يَعِ أنَّها لَمْ تَكُنْ في كُنْهِ الهُوِيَّةِ المُطلَقِ إلَّا مَعنىً مَخزُونَاً مَكنُونَاً مِنْ مَعلومَاتِ الهُوِيَّةِ الثابِتَةِ في الذاتِ .
وإنَّمَا كَانَتِ المَادةُ عَنْ تَوَهجِ الكُنْهِ ظهُوراً حَياتياً عَنْ نُورٍعلى نُورٍ .
( من كتاب الهوية للمفكر الإسلامي الشيخ د. هانيبال يوسف حرب ) .