العَالَمُ رُؤيَةٌ بَصَرِيَّةٌ لِكَلِمَةٍ إِلَهِيَّةٍ
ولِنوَضحَ أسرارَ هذَا العلمِ نَأتِي على أهميَّةِ الكَلمةِ كَفَهمٍ، فَقَد جاءَ في كِتابِ الإِنجِيلِ المُنَزَّلِ على رُوحِ اللهِ نَبيِّهِ المُرسَلِ كَلمَتِهِ عِيسَى عَليه السَّلامُ ” في البَدْءِ كَانَت الكَلمةُ ” .
وجاءَ في قُرآنِه الكريمِ بِلسانِ رَسولِه الأمينِ مُحمَّدٍ سَيدِ المُرسلينَ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وصحبِه وسلَّمَ { .. وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } البقرة117 .
ومِنهُ نَجدُ أوَّلَ أسرَارِ ” عِلْمِ رُؤيةِ القولِ بِالبَصرِ ” :
العَالَمُ أجمَعُ كانَ في ذاتِ اللهِ تعَالى كَلمةً، أرادَه اللهُ فَقَالَ لَه كُنْ فَكَانَ ((( فمَا هذَا الوجُودُ الذِي نَحيَا إلاَّ رُؤيَةً بَصرِيَّةً لِكلِمةٍ إلَهيَّةٍ )))
فكُلُّ المُكونَاتِ بِكُليَّتِها إلى أدقِّ تَفَاصيلِها مَخلُوقةٌ بِالكلمةِ الإلَهيَّةِ، ومِنه نَفهمُ :
أنَّ الكلِمةَ تَتَحوَّلُ إلى وَاقعٍ مُجسَّدٍ تُدركُه العُقولُ وتَشهدُه الأبصارُ، وهذُا حالُ الرَّاسِخونَ في العِلمِ
{… وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ .. } آل عمران7 .
وأَضرِبُ لَكَ مِثالاً حيَّاً يُوضِّحُ مَا نقولُ فِعلاً و قَولاً .. العَامَّةُ يَقصِدونَ شيخاً لِدَرْءِ البَلاء عَنْ غُلامٍ مَا، فَيقولُ الشَّيخُ لِذويهِ : إنَّ حَالةَ هذَا الغُلامِ إنَّمَا هِيَ أذَىً مِنْ عَينِ حَا سدٍ، حيثُ قالَ الحَاسِدُ عندَ رُؤيَته الغُلامَ: لَو أنَّ لِي جَسدَ وعَافيةَ هذَا الغُلامِ . فَلتَعلَمْ أنَّ الذِي حملَ ذاكَ الرَّاسخَ في العِلمِ على هذَا القولِ هوَ أنَّه رَأَى قَولَ الحَاسِدِ مُجسَّداً في هذَا الغُلامِ، فقرَأَ لَه آياتِ دَرءِ الحَسدِ فَشُفِيَ وَبَرِأَ مِنْ بَلَائِه، فَقَولُ الحَاسدِ كَطَاقةٍ سَلبيَّةٍ مُجسَّدةٍ فِي جَسدِ الغُلامِ زَالتْ بِقولِ العَارفِ كَطاقةٍ إيجَابيَّةٍ تَجسَّدتْ في جَسدِ الغُلامِ فَأَزالَت شَقَاءَه وبَلاءَه ..
فَتَجدُ كيفَ أنَّه بِكلمةٍ وَاحدةٍ تَجسَّدَ البَلاءُ ..
وبِكَلمةٍ وَاحدةٍ تَجسَّدَ الشِّفَاءُ ..
ومِنه نَجدُ السِّرَّ الثَّانِيَ في ” عِلمِ رُؤيةِ القَولِ بِالبَصرِ “
أنَّه : ” بِكلمةٍ تَتَجسَّدُ الوَقائِعُ كَمَا أنَّها تَزُولُ بِكلِمةٍ “
ومِنه يَظهرُ السِّرُّ الثَّالِثُ في ” عِلمِ رُؤيةِ القَولِ بِالبَصرِ “
أنَّ : ” الكَلمةَ هِيَ الحَاكمةُ على المَوجُودَاتِ المَادِّيَّةِ “
فَكُلُّ حَالةٍ مَاديَّةٍ مُجسَّدةٍ في الكَونِ مَحكُومةٍ بِالكلمةِ الإلَهيَّةِ، والكَونُ مُسخَّرٌ لِلإنسانِ لأنَّه خَليفةٌ لِلرَّحمنِ، فَالكلمةُ البَشريَّةُ أيضَاً تَحكُمُ الأكوَانَ وذَلكَ مِنْ :
-
تَخُلُّقِ الإنسانِ بِاسمِهِ تعَالى ” الخَالِقِ ” .
-
رُؤيَةٍ مِنْ اسمِ اللهِ ” الرَّقِيبِ ” .
ولِتعلَمْ يَا وَليِّي في اللهِ تعَالى أنَّ هذِه الأسرَارَ الثلاثةَ لَو أنَّنَا وَضعنَا لَها ثَمَناً وَزْنُ السَّمَاواتِ والأرضِ ذَهباً لَمَا استَوفَت مِنْ قِيمَتها شَيئاً، ولَمْ تُحقِّقْ مِعيَارَها الحَقَّ، لأنَّها مَفَاتيحُ رُؤيةٍ جَديدةٍ تَمَاماً في حَياةٍ جَديدةٍ كُلياً، إذْ لَمْ تَعُدْ تَرَى المَوجُوداتِ عِبارَةً عَنْ مُجسَّداتٍ مَاديَّةٍ وحَسبُ، بَل كَلِماتٍ تَقرَؤُها في رِقٍّ مَنشُورٍ تَحيَاهُ وتَتَنَفسُ هَوَاهُ، وهذِه الكَلمَاتُ تَنقُلنَا إلى :
السِّرِّ الرَّابعِ في عِلمِ رُؤيةِ القَولِ بِالبَصرِ وهوَ :
” الكَلِمَاتُ الحَقَّةُ لَيستْ كَالكَلِمَاتِ “
فَقَد وَردَ عَنِ النَّبيِّ الكريمِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وصَحبِه وسلَّم : ” أعُوذُ بِكلِماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ “ ، فَما هِيَ تِلكَ الكَلِماتُ التَّامَّاتُ ؟
سَتَجِدُ يَا وَليِّي في اللهِ تعَالى أنَّ إجَابَةَ هذَا السُّؤالِ هي مِنْ بُحُورِ ” عِلْمِ تَمَامِ الكَلِمةِ “ في القرآنِ الكريمِ، فَنُجيبُ مِنْ بُحورِ هذَا العِلمِ بِأنَّ :
(( الكَلِماتِ التَّامَّاتِ هي كَلِماتُ اللهِ تعَالى ))
فَالسَّيدَةُ مَريَمَ عَليها سَلامُ اللهِ تعَالى وُصِفَتْ في القرآنِ الكريمِ بِأنَّها صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا، { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } التحريم12 .
” وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا “ .. ( ليسَ بِكلِمةِ رَبِّها ) وإنَّمَا ( بِكلِمَاتِ رَبِّها جَميعِهَا ) .
ولِتَعلمْ أخِي بِاللهِ تعَالى أنَّ كَلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ تَسألُ العَليمَ الخَبِيرَ هذَا العِلمَ وهذَا الفَهمَ، بِدعَاءِ سَائلٍ وقَلبِ مُنِيبٍ ” رَبِّي زِدنِي عِلمَاً “، فَيُجيبُ وهوَ الأقرَبُ إليكَ مِنْ حَبلِ الوَريدِ؛ أُوتِيتُم لِهذَا مِثالاً قَريبَاً حَيَّاً مُتكلِّمَاً :
فَاللهُ لَه نَفْسٌ قالَ تعَالى : { .. وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ } آل عمران30 .
واللهُ لَه رَوْحٌ قالَ تعَالى : { .. وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } يوسف87 .
ليسَ الأمرُ عندَ هذَا الحَدِّ بَل أبَانَ الحَقيقَةَ لِتظهَرَ لِلعَالَمِينَ، وآلَتْ كَلمةُ الكِتابِ الحَكيمِ إلى وَاقعٍ مُتجسِّدٍ بِصورَةِ بَشرٍ هوَ عِيسَى ابنُ مَريمَ { وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } آل عمران45 .
اسمُه (( رُوحُ اللهِ )) ، وأيَّ مُسلمٍ على هذِه البَسيطَةِ لا يُؤمنُ أنَّ عيسَى ابنَ مَريمَ عَليه السَّلامُ هوَ (( رُوحُ اللهِ )) فقَد كَفَرَ .
عيسَى ابنُ مَريمَ هوَ (( كَلمةُ اللهِ التِي ألقَاها إلى مَريمَ )) ، {… إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ … } النساء171
فَسيِّدُنا عيسَى عليه صَلوَاتُ اللهِ وسَلامُه هوَ كَلمةٌ مِنْ كَلماتِ اللهِ، فهوَ كَلمَةٌ تَامَّةٌ، لأنَّ كَلماتِ اللهِ تعَالى لَيسَت كَلماتاً نَاقِصةً، وإنَّمَا كَلمَاتٌ تَامَّةٌ، وكَذلكَ سَيدُنا مُحمَّدٌ خَاتَمُ الأنبِياءِ والمُرسلِينَ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وصحبِه وسلَّمَ، كَلمةٌ تَامَّةٌ كَامِلةٌ لأنَّ ” التَّمَامَ شَيءٌ، والكَمالُ شَيءٌ آخَرُ ” .
فَصلٌ بَل وَصلٌ، في عِلْمِ التَّمَامِ و الكَمَالِ :
التَّمَامُ : هوَ أنْ يَتُمَّ الأمرُ على مَا هوَ عَليهِ .
بَينمَا الكَمَالُ : أنْ يَتُمَّ الأمرُ بِجميعِ أجزَائِهِ مُستَوفياً كُلَّ شُروطِ أبعَادِهِ بِدقّةٍ مُتنَاهِيَةٍ .
وأضرِبُ مِثالاً بَسيطاً لِتتمَكنَ مِنْ هذَا الفَهمِ: أنْ أُريدَ صَندُوقاً يَحوِي عَشرَ تُفَّاحَاتٍ، فَتِسعُ تُفَّاحَاتٍ ليسَ عَدداً تَامَّاً بِالنِّسبةِ لِطلبِي، فَحِينَ نُتِمُّها إلى عَشرِ تُفاحَاتٍ نَقولُ أنَّ العَددَ قَد تَمَّ في الصُّندوقِ، فَالتفَاحُ تَامُّ العَددِ، ولَكنْ مَاذا عَنْ مَسألةِ الكَمَالِ ؟
نَقولُ أنَّ كَمالَ التُّفاحَاتِ هوَ حِينَ تَكونُ تلكَ التفَاحَاتِ سَلِيمةُ الأوصَافِ لَا عَيبَ فِيها، بَل هيَ أُنمُوذَجٌ لِلتفاحِ بِكلِّ تَفَاصيلِهِ السَّلِيمةِ والدَّقيقَةِ، فَالتفَاحُ حِينَها يَكونُ تَامَّ العَددِ وكَاملَ التَّخلِيقِ، فَالكمَالُ في جُزئِياتِه يَجبُ أنْ يكونَ مُستَوفيَاً شُروطَ كُلِّ جُزءٍ مِنْ أجزَائِه .
في الحَقيقَةِ ” عِلمُ التَّمَامِ والكَمَالِ “ في القرآنِ الكريمِ مِنْ أوسَعِ عُلومِهِ وأجمَلِها، وهذِه لَمحَةٌ عَنْ ” عِلمِ التَّمامِ والكَمَالِ ” لِمَنْ يُريدُ أنْ يَبحثَ في هذَا العِلمِ ويَستَنِيرَ:
وَردَ في القرآنِ الكريمِ: { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } الأعراف142.
نُلَاحظُ أنَّه وَردَ قَولُه تعَالى : ” وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ “ وليسَ ” أكمَلنَاهَا ” .
بَينَمَا وَردَ في آيةٍ أخرَى : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } البقرة196 .
نُلاحظُ أنَّه وَردَ في قولِه تعَالى : ” عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ “ وليسَ ” عَشَرَةٌ تَامَّةٌ ” .
وجَاءَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وصحبِه وسلَّمَ : ” اليَومَ أكمَلتُ لَكُم دِينَكُم “، و لَمْ يَقُلْ : ” اليَومَ أتمَمتُ لَكُم دِينَكُم “ .. إذَنْ (( التَّمَامُ شَيءٌ والكَمَالُ شَيءٌ آخَرُ )) .
( من كتاب علم رؤية القول بالبصر للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب ) .
أقرأ التالي
1 أبريل، 2020
المَوجودُ الحقُّ – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
28 مايو، 2020
قاعدة رقائق عشقية وصل – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
2 أبريل، 2020
مَظَاهِرُ الْوَعْيِ وَأنْوَاعُهُ – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
زر الذهاب إلى الأعلى