التراتيبُ والتراكيبُ الحُروفيةُ
اعلمْ ياوليِّي في اللهِ تعالى أنَّ الألفاظَ والحُروفَ في ترتيبِها تُعطي حقائقَ وتصنيفَ الوجودِ في درجاتٍ معيَّنةٍ ..
مثالٌ :
لنأخذَ حرفينِ من حُروفِ البسملةِ ألا وهما حرفُ ( الباءِ ) من { بِسْمِ اللَّهِ } وحرفُ ( الراءِ ) من الاسمينِ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
الحرفانُ : ( الباءُ والراءُ ) لكلٍّ منهُما معنىً خاصٌ على الانفرادِ ..
الباءَةُ : المَنزلُ ؛ والجَمعُ : باءٌ .
فالباءُ : جَمعٌ مُفرَدُهُ الباءةُ : تعني المَنزلُ .
والباءَةُ : النِّكاحُ .
والباءَةُ : الجِماعُ .
ولهُ وجهٌ في المعاني كفعلٍ كقولِهِ تعالى في الآية 61 من سورة البقرة : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } أي رَجَعُوا بغضبٍ من اللهِ تعالى .
وباءَ بذنبِهِ : أي أقرَّ بذنبِهِ .
وباءَ بالفشلِ : رجَعَ فاشلاً .
فيَظهرُ الباءُ هنا اسماً كاملاً ذا معنىً ولهُ في الأفعالِ معنىً .
– والباءُ كرسمٍ حرفيٍّ لهُ معناهُ الخاصُّ الذي يَجرُّ ما بعدَهُ .. و كَسْرُ معاني الأسماءِ بعدَه من حقائِقِهِ :
فجوابُنا لفعلٍ نُسألُ عنه :
– بماذا كانَ ؟
– نجيبُ : ( بِـ) ؛ وهذا يعني أنَّ الفعلَ إنَّما تمَّ بقيامِهِ ( بِـ ) ، لذلكَ يُضافُ إلى الباءِ ياءُ المتكلمِ لترسيخِ معنى قيامِ الفعلِ بالمتكلِّمِ فتصبحُ ( بي ) .
وكذلك الأمرُ بالنسبة للرَّاءِ .. فالراءُ كاسمٍ يعني المشاهدةَ .
نقولُ رجلٌ راءٍ أي مشاهِدٌ .
والرائي اسمٌ لمصنوعٍ يُريكَ الأشياءَ من خلالِهِ ( التلفازُ – المونيتور ) .
والرَّاءُ بصيغةِ الأمرِ : تُصبحُ ( رِ ) وهيَ من وَرى يُوري وَرياً .
والوَرَى هو قدحُ الزِّنادِ ، فقولُنا : ( رِ : أي اقدحِ الزِّنادَ ) .
فالباءُ كما هيَ على انفرادِها ، والراءُ كما هيَ على انفرادِها تُعطيكَ معنىً خاصَّاً ، إلا أنَّها إذا جاءَتْ على ترتيبٍ معيَّنٍ و وصَلْنا الباءَ مع الراءِ أي وضَعنا باءً وبعدَها راءً يَظهرُ أمامَنا اسمٌ من أسماءِ اللهِ تعالى ألا وهو ( البَرُّ ) وقد ورَدَ أنَّهُ اسمٌ من أسماءِ اللهِ تعالى .
ولو أنِّي غيَّرتُ الترتيبَ فقط وجعلتُ الباءَ هي الثانيةُ وأخذتُ الراءَ وجعلتُها الأولى فأصبَحَتِ الراءُ قبلَ الباءِ نتَجَ عنهُما اسمٌ ألا وهو ( رَبّ ) .
فشكَّلنا منَ الباءِ والرَّاءِ ترتيبينِ وتركيبينِ :
التشكيلُ الأوَّلُ هو البَرُّ ، والتشكيلُ الثاني هو الرَّبُ ، واسمُ الربِّ واسمُ البَرِّ اسمانِ من أسماءِ اللهِ تعالى .
ولكنْ لنراقبَ المسألةَ التاليةَ :
رَغمَ أنَّهما نفسُ الحرفين إلَّا أنَّ هُناك تَعيينٌ لمستوىً نورانيٍّ خاصٍّ فرَضَهُ التركيبُ والترتيبُ .. كيفَ ذلك ؟
مثالٌ : لو أنَّنا صنَّفنَا أيُّهما أقوى في الدَّلالةِ وفي القوةِ من حيثُ الروحانيَّةِ الفاعلةِ في الوجوداتِ هل هو اسمُ اللهِ الرَّبِّ أم اسمُ اللهِ البَرِّ ؟
طبعاً الجميعُ يؤكِّدُ أنَّ اسمَ اللهِ الرَّبِّ هو الأقوى في التصنيفِ الكونيِّ للعِرفانِ والروحِ .
الربوبيَّةُ أعلَى من البَرِّ :
يقولُ علماءُ القرءانِ الكريمِ وأهلُ الذِّكرِ وأهلُ اللهِ تعالى إنَّ اسمَ اللهِ الرَّبِّ أعلى في الأسماءِ الحُسنى من اسمِ اللهِ البَرِّ بعَشراتِ الدَّرجاتِ .. ومنهم من صرَّحَ أنَّهُ الاسمُ الأعظمُ حسبَ بعضِ الرواياتِ .
تصوَّرُوا يا سادة أننا أمامَ نفسِ الحرفينِ ( باءٌ ، راءٌ ) إلا أنه عندما وُجِدَتِ الراءُ أوَّلاً ارتفعَتْ مرتبةُ الاسمِ عشراتِ الدرجاتِ عن وجودِ الباءِ قبلَ الرَّاءِ .
إذاً : فإنَّ اسمَ اللهِ ( الرَّبِّ ) أعلى من اسمِ اللهِ ( البَرِّ ) .
وكذلكَ فإنَّ اسمَ اللهِ ( الرَّبِّ ) هو أقوى ( من دلائلِ القوَّةِ ) منِ اسمِ اللهِ ( البَرِّ ) لأنَّ اسمَ اللهِ ( الرَّبِّ ) موجودٌ في سُورةِ الفاتحةِ التي هيَ أمُّ الكتابِ ، بينما اسمُ اللهِ ( البَرِّ ) لم يَظهرْ في سُورةِ الفاتحةِ إنَّمَا هو مُضمَرٌ فيها إلا أنَّهُ ظَهَرَ في سُوَرٍ أُخرَى .
فاسمُ اللهِ ( الرَّبِّ ) هو من الأسماءِ الخَمسةِ التي ظهرَتْ في سُورةِ الفاتحةِ .. لِماذا ؟
لأنَّهُ الأقوى والأكثرُ شُمولاً ، فظهورُهُ كانَ أقوى شمولاً وفاعليةً .
فإذا وجَدْنا إنسانَاً يدَّعِي الربوبيةَ .. فهو إنسانٌ كافرٌ بكلِّ المقاييسِ وترفضهُ البشريةُ رفضاً باتَّاً .
بينما حين نجدُ إنسانَاً آخرَ يدَّعي البَرَّ أي يقولُ إنَّهُ رجلٌ بَرٌّ ، فإنه يُسألُ :
أينَ البَرُّ الذي يدَّعيهِ ؟
فإذا قالَ :
– لقد فعلتُ كَذا وكَذا .. وتبيَّنَ أنهُ منَ المحسنيينَ فإنَّ الناسَ يَقبَلونَهُ ويُكرِمُونَهُ .
إذاً : الادِّعاءُ بالبَرِّ سهلٌ ومقبولٌ ، ولكنَّ ادِّعاءَ الربوبيةِ !! اللهُ أكبرُ .. فهوَ كفرٌ ويُحاسَبُ المدَّعي على هذا الادِّعاءِ .
عِلماً أنَّ الحَرفَينِ في ذاتِيَّتِهمَا يَحملانِ مَعانيهما إلا أنَّ الاختلافَ هو في الترتيبِ الحرفيِّ الذي
يقذِفُ بنا إلى المَرتبةِ الحقيقيَّةِ للكلمةِ التي تتألَّفُ منها هذهِ الحُروفُ .
وهنا يُمكنُ أن نقولَ بقاعدتَين روحيَّتَينِ في الحُروفِ وهُما :
1- إنَّ كلَّ ترتيبٍ حرفيٍّ لهُ مستوىً معيَّنٌ .
2- إنَّ كلَّ ترتيبٍ حرفيٍّ لهُ ترتيبٌ معيَّنٌ في الوجودِ يُعطيكَ خُصوصيَّةً معيَّنةً وتُبنَى عليهِ أحكامٌ خاصةٌ .
نشوءُ الأحكامِ في الترتيبِ الحرفيِّ :
اعلمْ ياوليِّي في اللهِ تَعالى أنَّ قاعدةً من القواعدِ الروحيَّةِ للحُروفِ تقولُ :
( إنَّ الترتيبَ الحرفيَّ هوَ ما يُبنَى عليهِ نشوءُ الأحكامِ ) .
نقولُ : نَعَم .. و قد جعلَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى نشوءَ الأحكامِ في الترتيبِ .
مثالٌ :
الشخصُ الَّذِي يدَّعِي أنَّهُ بَرٌّ ( بَاءٌ – رَاءٌ ) وأنَّهُ منَ النَّاسِ البارِّينَ فالحُكمُ الشرعيُّ فيهِ أنَّنا نَشدُّ على يدِهِ ونقبِّلُهُ ونرحِّبُ بهِ ونكرمُهُ لأنَّهُ من أهلِ البَرِّ وهذا مطلوبٌ ولا يستطيعُ أحدٌ محاسبَتَهُ .. هكذا هوَ الحُكمُ الشرعيُّ .
بينما إذا اختلفَ الترتيبُ لنفسِ الحرفَينِ وأصبحَ ( راءٌ – باءٌ ) صَدَرَ عن هذا الاختلافِ حُكمٌ مختلفٌ لأنَّ اللَّفظَ أصبحَ ( رَبٌّ ) ولا يَستطيعُ أحدٌ أن يقولَهُ غيرُ الإلهِ الواحدِ .
فإذا قالَ اللهُ تعالى : أنا الرَّبُّ الأعلى .. فعَلى الجميعِ الخُضُوعُ إلى ربوبيَّةِ اللهِ تعالى ، فالحُكمُ هنا أنَّنا خاضعون إلى ربوبيَّةِ الحَقِّ .
بينما إذا قالَ شخصٌ مَا من البشرِ العاديِّينَ : أنا الرَّبُّ ( بترتيبِ راءٍ – باءٍ ) أو قالَ : أنَا ربُّكمُ الأعلى .. فهو بذلك ادَّعَى ربوبيَّتَهُ على كلِّ شيءٍ مثلَ ادِّعاءِ فرعونَ مصرَ : { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى {24} النازعات ، فهوَ لم يدَّعِ ربوبيَّةَ البارِّينَ ولم يَقلْ أنا رَبُّ المُحسِنين أو أنا رَبُّ الفنانينَ مَثلاً أو أنا رَبُّ الأدباءِ ولكنَّهُ قالَ : { .. أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى {24} النازعات ، فادَّعى الربوبيةَ بالإطلاقِ فهو الأكثرُ كُفراً بدعواهُ ، ويَصدرُ عن هذا الترتيبِ الحرفيِّ للـ ( راء – باء ) حُكمٌ في هذا الشخصِ أنَّهُ كافرٌ لادِّعائِهِ الربوبيَّةَ لنفسِهِ ويُحالُ إلى القضاءِ ، ويقوم القاضي الشرعيُّ باستِتابَتِهِ أوَّلاً ؛ وإذا لم يَتُبْ يَصدُرُ عليهِ حُكمَاً بالإعدامِ بتُهمةِ الكُفرِ العَلَنيِّ الصَّريحِ وإفسادِ المجتمعِ .
وهذا ما يؤكِّدُ أهمِّيَّةَ الترتيبِ الحُروفِيِّ لنشوءِ الأحكامِ .
إذاً نستطيعُ أن نعيَ في بابِ البسملةِ قاعدةً هامةً في حُروفِ البسملةِ وروحانيَّتِها الترتيبيَّةِ وهي أنَّ :
– لتراتيبِ الحُروفِ في البسملةِ خصوصيةٌ وأهميةٌ في تصنيفِ وتعيينِ مستوياتِ الطاقاتِ والقدراتِ الخاصَّةِ بالأسماءِ الإلهيةِ بالنسبةِ لنا نحنُ البشرُ في فَهمِها وفي علمِها .
– كذلكَ فإنَّ هذه التراتيبَ مؤثرةٌ في صدورِ الأحكامِ ، بل إنَّ الأحكامَ تترتَّبُ بترتيبِ الحُروفِ في الألفاظِ والكلماتِ .
– كذلكَ فإنَّ هذا الترتيبَ الحرفيَّ يُحدِّدُ :
-
مستوى الكلمةِ .
-
الحُكمَ الصادرَ عن الكلمةِ .
-
الحُكمَ الصادرَ في الكلمةِ .
للمزيد … يمكنك تصفح / تحميل كتاب تفسير بنور الله تعالى – البسملة (الجزء الثاني) وذلك عبر الضغط على الصورة .

أقرأ التالي
4 ديسمبر، 2016
المطابقة الروحية – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
28 مايو، 2020
قاعدة رقائق عشق فصلية – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
27 فبراير، 2017
الحُريَّةُ – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية
زر الذهاب إلى الأعلى