الأدلة الشرعية لعلم رؤية القول بالبصر – موسوعة هانيبال للعلوم الإسلامية الروحية

الأدِلَّةُ الشَّرعِيَّةُ لِعِلْمِ رُؤيَةِ القَولِ بِالبَصَرِ

 

عِلمُ رُؤيةِ القًولِ بِالبصرِ لَه أدلَّةٌ في القرآنِ الكريمِ في الإلَهيَّاتِ والنَّبَويَّاتِ والسَّمعِيَّاتِ وأدلَّةُ الصَّحابَةِ وأمثِلةٌ ودَلالاتٌ مِنْ حَيَاتِنا الوَاقِعيَّةِ .

الأدِلَّةُ في الإلَهيَّاتِ :

ويُقصَدُ بِها المَعَارفُ الإلَهيَّةُ، فَقَد عَرَفنَا كيفَ أنَّ اللهَ يُوجِدُ الأكوانَ بِالكلمةِ، قالَ تعَالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يس82 ، فَإذا أرَادَ شَيئاً بِإرادَته الذَّاتيَّةِ كَإلهٍ يَبقَى ذَلكَ الشَّيءُ ضِمنَ إرادَتِه الذَّاتيَّةِ، ولِكنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُعلِّمُنا كيفَ تَظهرُ الأشيَاءُ وتَنفَطِرُ مِنَ الإرادَةِ الذَّاتيَّةِ كَعالَمٍ بَاطنٍ إلى العَالَمِ الخَارِجِيِّ كَعالَمٍ ظَاهِرٍ .

 وهذَا السِّرُّ الخَامِسُ مِنْ أسرَارِ عِلمِ رُؤيةِ القَولِ بِالبَصرِ وهوَ :

تِبيَانُ كَيفِيَّة إخرَاجِ المَعلُومةِ مِنْ ذَاتِ اللهِ وَتَكوِينِها في العَالَمِ الظَّاهرِ الذِي نَحيَا بهِ، يُرِيدُها اللهُ تعَالى ثُمَّ يقولُ ” كُنْ “ فَيَكونُ الشَّيءُ

” كُنْ” : كَلِمةٌ، لَكنْ كيفَ عَلِمْنا أنَّ هذِه الكَلمةَ قَد تَحققَت؟، نُجيبُ السَّائلَ بأنَّنَا رَأينَاها مُتَجسِّدةً في العَالَمِ المَخلُوقِ الذِي نَحيَا بهِ بِواقِعِ ” فَيكونُ “، فيَكونُ مَرئِيَّاً؛ فَيَكونُ مَوجُوداً؛ فَيكونُ مَسمُوعاً؛ فَيكونُ مُتآلِفَاً مَعَ العَالَمِ؛ فَيكونُ مَعرُوفاً لدَى أشخَاصِ العَالَمِ المَاديِّ؛ فَيكونُ مُتَآلِفاً مَعَ أشخَاصِ العَالَمِ أو مُتنَافِراً .

ومِنه نَنتَقلُ إلى سِرٍّ آخرَ مِنْ أهمِّ أسرَارِ القرآنِ الكريمِ، حيثُ إذا أرَادَ اللهُ شيئاً في عالَمِ الإرَادَةِ الذَّاتيَّةِ الإلَهيَّةِ؛ يَقولُ له ” كُنْ “ في عَالَمِ الكَلمَةِ والقَولِ؛ ” فَيَكونُ “ مُجسَّداً مَرئِيَّاً في عَالَمِ الأكوانِ الذِي نَحيَا بِه .

وإذا عَكَسنَا تَرَاتُبيَّةَ العِبارَةِ هذِه  فَنقولُ السِّرَّ السَّادسَ في ” عِلمِ رُؤيةِ القولِ بِالبَصرِ “ :

أنَّ كُلَّ مُجسَّدٍ مَرئِيٍّ في عَالَمِ الأكوَانِ الذِي نَحيَا بِه نَاتجٌ حَتمَاً مِنْ كَلِمة ( كُنْ )

ومِنه السِّرُّ السَّابِعُ في ” عِلمِ رُؤيَةِ القَولِ بِالبَصرِ “ :

أنَّ كُلَّ كَلمَةِ ( كُنْ ) نَاتِجةٌ حَتماً عَنْ إرَادَةٍ إلَهيَّةٍ

 ومِنه السِّرُّ الثَّامِنُ في ” عِلمِ رُؤيةِ القَولِ بِالبَصرِ “ :

أنَّ كُلَّ إرَادةٍ إلَهيَّةٍ هِيَ مَعلُومَةٌ في ذَاتِ اللهِ تعَالى

ومِنه السِّرُّ التَّاسِعُ في ” عِلمِ رُؤيةِ القولِ بِالبَصرِ “ :

أنَّ كُلَّ مَعلُومَةٍ في ذَاتِ اللهِ تعَالى لَا تَخرجُ إلاَّ بِإذنِ اللهِ تعَالى

بِالنَّتِيجةِ السِّرُّ العَاشِرُ في ” عِلمِ رُؤيَةِ القَولِ بِالبَصرِ “ :

أنَّه لا يُوجدُ شَيءٌ في هذِه الأكوَانِ؛ في هذَا العَالَمِ الذِي نَراه ونَشهَدُه؛ إلاَّ وهوَ مَعلُومةٌ في ذَاتِ اللهِ تعَالى، إلاَّ وهوَ إرَادةٌ مِنْ إرَاداتِ اللهِ تعَالى، إلاَّ وهوَ كَلمةٌ مِنْ كَلِماتِه

ومِنه السِّرُّ الحَادِي عَشَر في” عِلمِ رُؤيةِ القولِ بِالبَصرِ “ :

بِمَا أنَّ كُلَّ مَوجُودٍ في هذَا العَالَم وُجِدَ بِـ ” كُنْ “ ، وَ ” كُنْ “ نَاتجةٌ عَنْ إرَادةِ اللهِ تعَالى، وإرَادةُ اللهِ تعَالى هِيَ مَعلُومَةٌ في ذَاتهِ عَزَّ وجَلَّ، وهذِه المَعلُومةُ مَطلُوبةٌ مِنَ الذَّاتِ ومُرادَةٌ في هذَا العَالَمِ.. إذَنْ: العَالَمُ بِكلِّ دَقائِقهِ و بَسائِطِه هوَ عِبارةٌ عَنْ كَلماتِ اللهِ تعَالى

فيُمكِنُنا إذَنْ أنْ نُلخِّصَ هذِه الأسرَارَ بِكلمةٍ وَاحدةٍ : أنَّ (( الوجُودَ هوَ كَلماتُ اللهِ تعَالى )) ، فأيّ مَوجُودٍ نَتوَاصلُ معَه في هذَا العَالَمِ نَكونُ في تَواصُلٍ مَعَ كلماتِ الخَالقِ عَزَّ وجَلَّ، أرَادَها اللهُ عَزَّ وجَلَّ؛ فقالَ لَها “كُونِي” فَكَانَت؛ فَتجسَّدَتْ؛ فَشَهدنَاها؛ فَعَلِمنَاها .

ولِتَرسِيخِ هذَا العِلمِ نَعودُ إلى كِتابِ الحَقِّ عَزَّ وجَلَّ ونَقرَؤُه بِأنوَار اسمِ اللهِ الرَّقيبِ، فَنجِدُ أنَّ (( كُلَّ كَلمةٍ في كِتابِ الحَقِّ هِيَ حَضرةُ تَامَّةٌ كَاملةٌ في الوجُودِ )) ، فَالوجُودُ كانَ بِالكلِمةِ الإلَهيَّةِ ” كُنْ ”  ” فَيَكونُ “ .

سَيِّدُنا عِيسَى عليه السَّلامُ قالَ : { .. أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ .. } آل عمران49 ، فَسيِّدُنا عِيسَى عليهِ السَّلامُ هوَ رُوحُ اللهِ تعَالى حَيٌّ حتَّى القِيامةِ، فرُوحُ اللهِ لا تَموتُ .

و عِيسَى عليه السَّلامُ كَلمةُ اللهِ، يَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهيئَةِ الطَّيرِ، وقَبلَ هذَا التَّخلِيقِ نَجِدُ أنَّه عليهِ السَّلامُ أرَادَه في ذَاتِه طَيرَاً قَادرَاً على التَّحلِيقِ، ثُمَّ نَفخَ فِيه كَلمَتَه فَكانَ طَيرَاً بِإذنِ اللهِ تعَالى .

و في قِصَّةِ سَيِّدِنا جِبريلَ عليه السَّلامُ في رِسالَتهِ الإلَهيَّةِ مَعَ السَّيِّدَةِ مَريمَ عليهَا السَّلامُ يُورِدُ الحَقُّ تعَالى قَولَه : { فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً {17} قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } مريم18 .

تَقِيَّاً : مَعنَاها الوَارِدُ هنا ” شَقِيَّاً ” .

{ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً } مريم19 .

{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } التحريم12 .

{ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء91 .

فَقَد نَفخَ سَيِّدُنا جِبريلُ عليهِ السَّلامُ “كَلمةً مِنْ كَلماتِ اللهِ تعَالى” في السَّيِّدةِ مَريمَ عَليها سَلَامُ اللهِ فكَانَ ” عِيسَى رُوحُ اللهِ “ ، وسِرُّ التَّكوِينِ ” بِالنَّفخَةِ الرُّوحيَّةِ “ يُفسِّرُ مَا يقومُ بهِ أهلُ الحَقِّ والعِرفَانِ مِنْ نَفْخٍ في مَادةِ الحَياةِ (( ألَا وهيَ المَاءُ )) لِتَكونَ سُقيَاً لِمَنْ يُريدُ الشِّفَاءَ، فَيُجسِّدُ العَارِفُونَ الكَلِمةَ حَقِيقَةً مَاديَّةً .

وفي عَصرِنا عَصرِ الفِيزيَاء والتَّجرِبةِ المَادِيَّةِ أجرَى العُلمَاءُ في اليَابانِ أبحَاثاً أثبَتَت أنَّ فِيزيَاءَ المَادةِ تَتغيَّرُ وتَتأثَّرُ بِحَسبِ الكَلمةِ المُتَلَفَّظَةِ، ومِنْ هذِه التَّجارِب أنَّهم مِنْ بَعدِ إجرَاءِ ذِكْرٍ على عَينَةٍ مِنَ المَاءِ وَجدُوا أنَّ الحَالةَ البلَّورِيَّةَ لِلمَاءِ الغِيرِ مُعرَّضٍ لِلذِّكْرِ تَختَلِفُ عَنْ الحَالةِ البلَّورِيَّةِ لِلمَاءِ الذِي تَعرَّضَ لِلذِّكْرِ، والنَّتيجَةُ التِي ظهرُوا بِها لِلعَالَمِ أنَّ الكَلمةَ مُؤثِّرَةٌ بِالمَادَّةِ .

أمَّا بِحَسبِ عُلومِنَا وثَقَافَتِنا كَرِسالةٍ كَونيَّةٍ مُتقدِّمةٍ في الزَّمانِ والمَكانِ نَقولُ بأنَّ :

الكَلمةَ لَيسَت مُؤثّرَةً في المَادةِ، وإنَّمَا الكَلمَةُ تَتَخلَّقُ مِنها المَادةُ

وهذَا هوَ السِّرُّ الثَّانِي عَشَرَ في ” عِلمِ رُؤيَةِ القَولِ بِالبَصرِ “

وهذَا السِّرُّ مُستَمَدٌّ مِنْ ” عِلمِ الإلَهيَّاتِ في القرآنِ الكريمِ “ ، و هوَ مِنْ عُلومِ العَقيدَةِ التِي تُبَيِّنُ جَميعَ المَعلومَاتِ المُتعلِّقَةِ بِذاتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ و صِفَاتِه وأسمَائِه وأفعَالِه .

وحَقيقَةً إنَّ الغَوصَ في عِلمِ الإلَهيَّاتِ و بهذِه الأبعَادِ يُوصِلُنَا لِحَقَائقَ عَظِيمةٍ
الأدِلَّةُ في السَّمعِيَّاتِ :

هَل نَبَّأَنا كِتَابُ الحَقِّ عَنْ كَائنَاتٍ رَأتْ الكلمةَ بِالعَينِ المُجرَّدةِ ؟

الإجَابةُ هِيَ : نَعم، فَهُناكَ مَنْ يَرَى الأقوَالَ رُؤيةً بَصريَّةً، وذلكَ بِدليلٍ قُرآنِيٍّ ألَا وهوَ رُؤيةُ المَلائِكةِ لِلكلمةِ الإنسَانيَّةِ، وَرُؤيةُ الإنسَانِ لِلكلمةِ الإنسَانيَّةِ .

فَمَاذا نَقصِدُ بِالسَّمعِيَّاتِ ؟

كُنَّا قَد رَأينَا أنَّ المَقصُودَ مِنْ عِلمِ ” الإلَهيَّاتِ “ : هوَ جَميعُ المَعلُوماتِ في العَقيدَةِ المُتعلِّقَةِ بِذاتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ و صِفاتِهِ وأسمَائِه وأفعَالِه، و عِلمُ الإلَهيَّاتِ هوَ جُزءٌ مِنْ ثَلاثةِ أجزَاءٍ يُشكِّلُ مَجمُوعُها عَقِيدَتَنَا عَقيدَةَ أهلِ السُّنَّةِ و الجَمَاعةِ و هِي الإلَهيَّاتُ؛ و النَّبَوِيَّاتُ؛ و السَّمعِيَّاتُ .

فَـ ” النَّبَوِيَّاتُ “ هي جَميعُ المَعلومَاتِ المُتعلِّقةِ بِذاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم و صِفاتِه وأسمَائِه وأفعَالِه ، و ” السَّمعِيَّاتُ “ هي  كُلُّ مَا سِوَى ” الإلَهيَّاتِ “ و ” النَّبَوِيَّاتِ “، مِثلُ ( الجَنَّةِ والنَّارِ ) فهِيَ مَخلُوقاتٌ مَوجُودةٌ؛ ومِنْ عَقِيدتِنا أنْ نَعتَقدَ بِوجُودِها، و مِثلُ ( الجِنِّ والمَلائِكةِ ) فهِيَ مَخلُوقَاتٌ مَوجُودةٌ؛ ومِنْ عَقِيدتِنا أنْ نَعتَقدَ بِوجُودِها .

في هذَا العِلمِ وكَمِثالٍ عَنِ السَّمعِيَّاتِ سوفَ نَتنَاولُ المَلائِكةَ ؛ فَهل يُوجَدُ مِنَ المَلائكةِ مَنْ يَرَى قَولَ الإنسَانِ بِرؤيةٍ بَصرِيَّةٍ ؟

الإجابةُ هي : نَعم، ودَليلُه أنَّ المَلائكةَ تَشهَدُ قَولَ الإنسَانِ قَولُه تعَالى : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ق18، وكانَ تَفسيرُ العُلماءِ لِلآيَّةِ هوَ كَشفٌ لِوجُودِ مَلَكَانِ على كَتِفيّ الإنسانِ، مَلَاكُ اليَمينِ يَكتبُ الحَسنَاتِ و مَلَاكُ الشِّمالِ يَكتبُ السَّيئَاتِ، أمَّا تِلكَ السَّيئَاتُ والحَسنَاتُ فهيَ الأقوَالُ حَسَنُها وسَيِّئُها، ولو لَمْ تكنْ تِلكَ المَلائكةُ تَرَى الأقوَالَ لَكانَت صِيَاغةُ الآيةِ على الشَّكلِ : (( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ – سَمِيعٌ – عَتِيدٌ )) ، فَالمَلَاكُ ( الرَّقيبُ العَتِيدُ ) يُراقِبُ الأقوالَ الإنسَانيَّةَ بالرَّقابَةِ البَصرِيَّةِ، وليسَ بِالسَّمعِيَّةِ لأنَّ هذِه المَلَائِكةَ بِالخُصوصِ يَرونَ الكَلمةَ الإنسَانيَّةَ مُجسَّدةً على صُورتِها الحَقيقِيَّةِ فيَكتُبونَها بِكُلِّ تَفَاصِيلِها، أمَّا وُجُودُ هذِه الخَاصيَّةِ فهوَ نَتيجَةُ العَدْلِ الإلَهيِّ، فَالإنسَانُ يتلَفَّظُ الكَلمةَ فَتتَجسَّدُ على حَقيقَتِها بِكُلِّ تَفَاصيلِها، تَشهدُها مَلائِكةُ الـ ” رَّقيبِ عَتِيدِ “ ، فَتَرى هذِه المَلائِكةُ مَا تَفعلُه تِلكَ الكَلمةُ، ومَا يَنتجُ عنها مِنْ عَوَاقِبَ بِرؤيَةٍ ومُشاهدَةٍ بَصرِيَّةٍ، فَتشهَدُ الكلمةَ الطَّيبَةَ؛ والكَلمةَ الخَبيثَةَ؛ والكَلمةَ النُّورَانيَّةَ، أمَّا الكلمةُ العَظيمةُ التِي لَا يَستطيعُونَ لَها تَفسِيراً فَيَشهَدُونها نُوراً مُنتَشِراً مُستمِراً في الوجُودِ؛ يَسألُونَ اللهَ تعَالى فَيقُولُون إنَّ عَبدَك فُلانٌ قالَ كَلمةً عَضُلَتْ عَلينا، لا نَعرِفُ حُدودَ نُورِها، يَا رَبِّ مَاذا نَكتبُها ؟

فَيُجيبُ اللهُ تعَالى اُترُكُوها لِعبدِي – لا يُسجِّلونَ ثَوابَها – فَيومَ القِيامةِ عندَ اللقَاءِ أُعطِيه ثَوابَها .

هذَا مُستمَدٌّ مِنَ الحَديثِ الشَّريفِ  حَديثِ فَضلِ الحَامدِينَ حيثُ أخرَجَ النَّسَائيُّ فى سُننِه، مِنْ بابِ فَضلِ الحَامِدينَ في الجُزء 2 ص 220 (( عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ – رضيَ اللهُ عنهُما – أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – حدَّثهُم أنَّ عبدَاً مِنْ عِبادِ اللهِ قَالَ : يَا رَبِّ، لكَ الحَمدُ كمَا يَنبغِي لِجَلالِ وجهِكَ ولِعظِيمِ سُلطَانِك، فَعضُلَتْ بِالمَلَكَين فَلَمْ يَدرِيَا كيفَ يَكتُبَانِها، فَصَعَدَا إلى السَّمَاءِ، وقَالَا : يَا رَبَّنا إنَّ عبدَك قالَ مَقالةً لا ندرِي كيفَ نَكتبُها؟ قالَ اللهُ – عَزَّ وجَلَّ – وهوَ أعلَمُ بِمَا قَالَ عبدُه : مَاذا قَالَ عبدِي؟  قَالَا : يَا رَبِّ إنَّه قالَ : يَا رَبِّ لكَ الحَمدُ كمَا يَنبغِي لِجلالِ وَجهِكَ وعَظِيمِ سُلطَانِك، فقالَ اللهُ – عَزَّ وجَلَّ – : اُكتُباها كمَا قالَ عبدِي، حتَّى يَلقَاني فَأَجزِيَه بِها )) . وهذَا الحديثُ في كُتبِ الصَّحِيحِ ومُمَاثِلُه كَثيرٌ في كُتبِ الصَّحيحِ .

 وجاءَ في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ {26} إبراهيم .

فَشبَّه اللهُ عَزَّ وجَلَّ – وللهِ المَثلُ الأعلَى – الكَلمةَ بِالشَّجرةِ المُتشعِّبةِ، فَالكلمةُ كَالبِذرةِ ومَلائكةُ الكتابةِ ( الرَّقيبُ العَتيدُ ) تَراها رُؤيةً بَصرِيَّةً كَشجرةٍ بِكامِلِ شُعُبِها، وهذَا بَيانٌ لِقُدرةِ هذِينِ المَلَكَين وتَحقُّقهِما بِالرُّؤيةِ البَصرِيَّةِ، فَكلمةُ رَقِيبٍ مِنْ رَقَبَ، مُشاهدَةٌ بَصريَّةٌ، فيُشاهِدُ هذَا المَلَكُ الأبعَادَ الكَاملةَ لِلكلمةِ، ومَدَى تِلكَ الأبعَادِ وهوَ على مَكانِه في كِتابِكَ.

هذَا على مُستوَى المَلائِكةِ .

 فَتفكَّرْ وَلِيِّي في اللهِ تعَالى في مَدَى الرُّؤيةِ الإلَهيَّةِ والرَّقَابةِ الإلَهيَّةِ؛ والبَصرِ الإلَهيِّ؛ أينَ مُنتَهَاها ؟! عَالَمُ الكونِ كُلُّه مِنَ الأزَلِ إلى الأبَدِ.

ويَقولُ تعَالى : { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } إبراهيم26، فَيُشبِّه اللهُ عَزَّ وجَلَّ الكَلمةَ الخَبيثَةَ وكَأنَّها حَالةٌ هَوجَاءُ حَركتُها عَشوائِيَّةٌ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ، كَيفَما تَحرَّكَتْ تَركَتْ قَذَارةً وفَضلَاتٍ ونِفَاياتٍ مُؤذيَّةٍ، ” نَاقةٌ عَشوَاءُ “ كَيفَمَا سَارَتْ هَدَمتْ، مَا لَها مِنْ قَرَارٍ ..

و نَروِي حَادثةً عَنْ إحدَى زُوجَاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حَيثُ عَيَّرَت نَظِيرتَها مِنْ زَوجَاتِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فَقالَت : ” تِلكَ القُصِيرَاءُ ” أيْ القَصيرةُ القَامةِ، فَانتَفضَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وقالَ : ” مَهْ، لَقَد قُلتِ كَلمةً لو مُزِجَتْ بِماءِ البحرِ لَأنتَنَتْه ” .

فَحينَ لَفظَت تِلكَ الكلمةِ، أعطَى عليهِ الصَّلاةُ و السَّلامُ حِسَّاً بَصرِيَّاً عَنْ  دَنَسٍ هَائلٍ خَرجَ وانتَشرَ لِحدِّ أنَّه لو استغرَقَ البحرَ لَأنتَنَه، فهذَا الإِنتَانُ الهائلُ قد شَرحَه سَيِّدُ المُرسَلِينَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ صُورةً بَصريَّةً، و مِنهم مَنْ يَسألُ هَل رَآها بِخيَاله أم بِمَاذا؟

آلِيَّةُ الرُّؤيةِ مَوضُوعٌ مُختلِفٌ نَدرسُه لَاحِقاً بِدلائلِ القرآنِ والسُّنَّةِ، فَالآلِيَّةُ لا تَقتصِرُ على المُخيِّلةِ، وإنَّمَا رُؤيَةٌ بالحقيقةِ والوَاقعِ، ومَا يهمُّنا هُنا في “عِلمِ رُؤيةِ القَولِ بالبَصرِ” أنَّ سَيِّدَنا مُحمَّداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رَأَى الكلمةَ كَمَا رَآها مَلَاكُ ( الرَّقيبِ العَتيدِ ) { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} النجم .

و في حَديثٍ آخرَ يقولُ صلى الله عليه وسلم : ” إنَّ أحدَكم لَيَتكلَّمُ الكلمةَ لا يُلقِي لَها بَالاً، تَهوِي به في جَهنَّم سَبعِينَ خرِيفاً، والتَّعليلُ: أنَّها أصَابت غَضَبَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، و في تتمَّةِ الحَديثِ “وإنَّ أحدَكم لَيَتكلَّمُ الكلمةَ لا يُلقِي لَها بَالاً فَيُصِيبُ بها رضَا اللهِ فتَرتَفعُ بهِ سَبعينَ خرِيفاً في الجَنَّةِ ” .

وكلمةُ خرِيفاً يُقصَدُ بها : سَنَةً أو عاماً .

و يُشبِّه لَنا العَارِفُ باللهِ تعَالى هَانِيبَال يُوسفُ حَربٍ الدِّمشقِيُّ هذَا الحَالِ: وكأنَّ الرجلَ الذِي يَلفظُ كلمةَ سُوءٍ قَد هَوَى مِنْ حَافَّةِ جَهنَّمَ، وهوَ يَصرخُ فيَنتهِي صُراخُه بعدَ سَبعِينَ سَنَةٍ مِنْ حَادثةِ سُقوطهِ، فكُلُّ هذَا السُّقوطِ والألمِ والرُّعبِ والدَّمارِ والذُّعرِ قد نَتجَ مِنْ كلمةٍ لا تُلقِي لها بَالاً ! نَعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ، ومِنْ كُلِّ كلمةِ سُوءٍ قد تَخرجُ مِنْ أفوَاهِنا، اللهم نَستغفِرُكَ ونَتوبُ إليكَ مِنْ كُلِّ كلمةٍ لا تُرضِيكَ ” اللهم آمينَ ” .

ونَمُوذجٌ يَعرِضُه علينا العَارفُ باللهِ تعَالى هَانيبالُ حَربٍ الدِّمشقِيُّ قدَّسَ اللهُ سِرَّه: كيفَ تَجلسُ نِساءٌ بعدَ صلاةِ العِشاءِ، يَتكلمُونَ على فُلانةٍ حتَّى يَجعلُوها في قُلوبِهم مُحتَقَرةً مُلامةً، بِكلمَاتٍ لا يُلقُوونَ لَها بَالاً ولا يُقِيمُونَ لها مِكيَالاً، كأنْ يَقُلْنَ ( الله يبعتلها حُمّة ) ومَعنَاها : أصَابَها اللهُ بالمَرضِ .

فَفِي الحَديثِ الصَّحيحِ : ذَكرَت زَوجةُ الرَّسولِ كلمةَ ( قُصِيرَاء ) ، فَأَنذَرها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّها كلمةٌ تَمزُجُ البحرَ نَتَنَاً وقَذَارةً، فَمَا بَالُكَ يَا وَلِيِّي في اللهِ تعَالى إنْ كَانت كلماتُ النَّمِيمةِ أبعَدُ مِنْ ذَلكَ بِكثيرٍ!، فَإذا كُلُّ كلمةِ نَميمَةٍ تَهوِي بِصاحبِها سَبعينَ خَريفاً في جَهنَّمَ، فَمَا بَالُكَ بجميعِ تِلكَ الكلماتِ التِي تدورُ في أحاديثِ العَوَامِ مِنَ النَّاسِ!، فَالشَّخصُ الذِي تمَّت عليهِ النَّميمةُ قد يَدخُل الجنَّةَ بحسنَةِ الظُلمِ الوَاقعِ عليهِ مِمَّنْ نَمَّ عليهِ بِكلماتٍ تقودُه إلى جَهنَّمَ .

مِثالُه أيضَاً أنْ يَسخرَ قومٌ من حَوَلِ عَيْنَي فُلانٍ – والعِياذُ باللهِ تعَالى – فإذا كانَت عُيونُهم سَليمةَ المَظهرِ حُقَّ عليهِم أنْ يقولُوا ” الحمدُ للهِ “، ومَا هُم بِخالِقِي عُيونِهم، فَالذِي خلقَها هوَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ نَشكرُه على نِعَمه ولا نَجحَدُه، أو مَثلاً قولُهم فُلانٌ ( أصلعُ لا شعرَ لَه ) ، أو ( فلانٌ بَشرتُه لُونُها كذَا ) ، أو ( فُلانةٌ لا تَطهُو جَيداً ) أو أنَّ ( فُلاناً لا تَطَالُ قدمَيه دوَّاسةَ السَّيارةِ ) ، أو مَثلاً جَارٌ تلقَّى مِنْ زوجةِ جَارِه طَلبَاً، فقالَ لَها ( تِكرم عُيونِك ) ، وهذَا مُصطلَحٌ غَزَليٌّ في بلادِ الشَّامِ … مِثلُ هذِه الكلمةِ تَهوِي به سَبعينَ خرِيفاً في جَهنَّمَ، أو مَثلاً أنْ يُخالِطَ الرِّجالُ النِّساءَ في مَجالسِهم، فَلَا يُدركُ العَوامُ مدَى خُطُورةِ أفعَالهم وكَلماتِهم وأقوَالِهم ونَوايَاهم، وهذَا كُلُّه فيه حِسابٌ، يقُولونَ أقوَالهم هذِه وهُم يَضحكُونَ ويَلعَبونَ إلى آخرِه مِنْ كلماتِ السُّخرِيةِ والنَّمِيمةِ التِي لا طعمَ لَها ولا لَونَ ولا مُحتَوى سِوى مَضيَعةً لِلوقتِ وتَهلُكةً لِلرُّوحِ .. { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } الكهف104

{ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } العنكبوت64 .

وهَل تُدرِكُ وَليِّي في اللهِ تعَالى أو تَتخيَّلُ أبعادَ هذَا الكائِن المُسمَّى ” جَهنَّم “ ؟! إذْ نَستغرِقُ سَبعِينَ عاماً لِنجتَازَ لَهبةً مِنها، فهَل تَستحِقُ لَفظةٌ مِنْ أربعةِ حروفٍ ( أقرَط ) مَثلاً سَفرَ سَبعِينَ عاماً في جَهنَّمَ!

فإذا زَوجةُ النَّبيِّ عليهِ الصَّلاةُ و السَّلامُ – لَولا أنْ نَبَّهَها نَبيُّ الحقِّ – كَادَت أنْ تَهوِي سَبعِينَ عَاماً في جهنَّمَ، فمَا بَالُك بِجزَاءِ الذِي يَلفِظُ كَلماتِ الكُفرِ، أو يَشتِمُ دينَ الحقِّ، أو يُنَافِقُ لِغاياتٍ ماديَّةٍ، أو يَكتبُ كُتباً أو مَقالَاتٍ كُلُّها كَذبٌ ونِفاقٌ ودَسائِسٌ وتَشويهٌ لِلحَقيقَةِ ! أو يقولُ فلانٌ زَانٍ وفُلانةٌ عَاهرةٌ، ويَرمِي المُحصنَاتِ الغَافِلاتِ !

 


( من كتاب علم رؤية القول بالبصر للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب  ) .


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى