إضَاءَاتٌ عَلَى آيَاتِ ذِكْرِ الرُّوحِ فِيْ الْقُرْآنِ الْكَرِيْمِ
وَرَدَتْ عِدَّةُ آيَاتٍ فِيْ الْقُرْآنِ الْكَرِيْمِ الَّتِيْ ذُكِرَتْ الرُّوحُ فِيْهَا ؛ وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِيْ سَوْفَ نَأتِيْ عَلَى ذِكْرِهَا :
( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي ) الحجر 29
( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ) القدر 4
( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ) مريم17
فِيْ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَةِ لَمْ تَأتِ لَفْظَةُ الرُّوحِ بِنَفْسِ الْمَعْنَى ؛ فَإنَّ هُنَاكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَهَا وَإنْ تَشَابَهَتِ التَّسْمِيَةُ .
فَفِيْ الْآيَةِ الْأولَى جَاءَتْ بِمَعْنَى ( رُوحُ الْحَقِّ ) .
وَفِيْ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ ( اسمٌ مِنْ أسْمَاءِ الْكَائِنَاتِ الَّتِيْ فَوقَ حِيْطَةِ ( كُنْ ) .
وَ فيْ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ ( الْمَقْصُودُ بِهَا جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) .
وَأمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) الشمس9 .. فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى تَمَامِ التَّزْكِيَةِ ؛ وَلَيْسَتِ التَّزْكِيَةُ تَحَوُّلُ النَّفْسِ إلَى رُوحٍ كَمَا يَعْتَقِدُ الْبَعْضُ ؛ بَلْ هِيَ فَنَاءُ الْجَسَدِ وَالنَّفْسِ وَالرُّوحِ بِاللهِ تَعَالَى ، وَلَكِنْ فِيْ مَرْحَلَةٍ مِنَ السُّلُوكِ يَرْتَقِيْ الْكَائِنُ إلَى مَقَامَاتِ الرُّوحِ فَتَظْهَرُ تِلْكَ الْحُلَلُ مِنَ الْإمْكَانِيَّاتِ وَالْقُدُرَاتِ الْمَخْزُونَةِ فِيْ الرُّوحِ الْبَشَرِيِّ .
أمَّا مَسْألَةُ الرُّوحِ فَلَا نَفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أنَّهَا لَا اخْتِيَارَ لَها بَلْ نَفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ عَنْ مَنْشَئِهَا وَمُنْشِئِهَا لَا عَنِ اخْتِيَارَاتِهَا .
أمَّا ذِكْرُهَا فِيْ قَوْلِ الْحَقِّ تَعَالَى : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ) الطلاق 12 ؛ فَإنَّنَا نَعِيْ تَمَامَاً مِنْ بُحُورِ هَذِهِ الْآيَةِ أنَّ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَمَاثِلَةِ فِيْ الْعَوَالِمِ الْمُتَوَازِيَةِ لَهَا نَفْسُ الرُّوحِ ( رُوحٌ وَاحِدَةٌ ) فِيْ كُلِّ الْعَوَالِمِ ؛ فَلِكُلِّ شَخْصِيَّةٍ مِنْ شَخْصِيَّاتِكَ فِيْ الْعَوَالِمِ الْمُتَوَازِيَةِ نَفْسُ الرُّوحِ لِأَّنكَ هُنَاكَ أنْتَ بِذَاتِكَ وَ لَيْسَ غَيْرَكَ كَمَا أنْتَ هُنَا نَفْسُكَ وَلَيْسَ غَيْرَهُمْ .
وَذِكْرُهَا فِيْ الْآيَةِ الْكَرِيْمَةِ ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) الإسراء85
فَإنَّ ارْتِبَاطَ حَرْفِ الْجَرِّ ” مِنْ ” هُنَا يُفِيْدُ التَّبْعِيْضَ ، فَالرُّوحُ مُجْتَزَأةٌ مِنَ الْأمْرِ وَمَاهِيَّةُ الْأمْرِ فِيْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَأنَّ لَهُ نَفْسُ خَصَائِصِ الرُّوحِ فِيْ التَّبْعِيْض.. وَالرُّوحُ الَّتِيْ تَخْرُجُ مِنْهُ الْأرْوَاحُ إنما هُوَ الرُّوحُ الْكُلِّيُّ .
وَذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الرُّوحَ فَقَالَ تَعَالَى فِيْ كِتَابِهِ الْمَجِيْدِ : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) سورة الشمس .
وَبِالْإضَاءَةِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ نَقُولُ : أنَّ النَّفْسَ اجْتِمَاعُ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ مَعَاً ؛ وَلَكِنْ بِمُجَرَّدِ اجْتِمَاعِهِمَا يَكُونُ مَوْضُوعُ الْحَاكِمِيَّةِ بَيْنَهُمَا عَلَى عَاتِقِ الْأقْوَى ؛ فَمَنْ كَانَتْ ذَاتِيَّتُهُ أقْوَى حَكَمَ الْآخَرَ ؛ فَتَارَةً يَتْبَعُ الرُّوحُ الْجَسَدَ ؛ وَتَارَةً يَتْبَعُ الْجَسَدُ الرُّوحَ ؛ وَبِالْجُمْلَةِ فَإنَّ الْأْقوَى مِنْهُمَا هُوَ الْمُتَحَكِّمُ بِالْكَيَانِ الْمُجْتَمِعِ مِنْهُمَا فَإذَا كَانَ الرُّوحُ هوَ مَنْ يَتْبَعُ الْجَسَدَ تَكُونُ الْحَاكِمِيَّةُ عِنْدَئِذٍ لِلشَّهَوَاتِ وَالرَّغَبَاتِ الَّتِيْ تَتَنَازَعُ الْقَلْبَ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَبِذَا كَانَ اسْمُهُ قَلْبَاً لِشِدَّةِ تَقَلُّبِهِ .
وَالْقَلْبُ هُوَ مَوْضِعُ تَقَلُّبِ السِّرِّ بَيْنَ عَوَالِمِهِ مِنْ رُوحٍ إلَى رَغْبَةٍ إلَى شُهُودٍ إلَى وُجُودٍ .
وَهُنَاكَ سِرٌّ آخَرُ غَايَةً فِيْ الْإبْدَاعِ الْإلَهِيِّ فِيْ الْآيَةِ الْكَرِيْمَةِ ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) 10الشمس .
فَلَو قَالَ اللهُ تَعَالَى : – وَالَّذِيْ سَوَّاهَا – فَالْمُشَارُ إلَيْهِ عَظَمَتُهُ هُوَ ؛ وَلَكِنْ بِقَوْلِهِ ( وَمَا سَوَّاهَا ) فَالمُشَارُ هُنَا إلَى عَظَمَةِ التَّسْوِيَةِ وَذَلِكَ لِنَنْتَبِهَ إلَى عَظَمَةِ تِلْكَ النَّشْأةِ .
وَلْتَعْلَمْ أنَّ تَعْظِيْمَ الْفِعْلِ هُوَ تَعْظِيْمٌ لِلْفَاعِلِ فَلَمْ يَخْرُجْ عِنْدَ أهْلِ اللهِ تَعَالَى الْمَعْنَى عَنِ الْإشَارَةِ إلَى عَظَمَتِهِ ؛ فَهُوَ الَّذِيْ سَوَّاهَا ، كَمَا تُشِيْرُ إلَى لَوْحَةِ رَسَّامٍ فَتَصِفُهَا بِالْبَدِيْعَةِ ؛ وَأنْتَ تَعِيْ تَمَامَاً أنَّ مَدْحَكَ هُوَ عَلَى الْحَقِيْقَةِ مَدْحٌ لِلرَّسَّامِ لَا لِلرَّسْمَةِ فَهُوَ الَّذِيْ رَسَمَهَا لَاهِيَ رَسَمَتْ ذَاتَهَا … سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
أمَّا تَزْكِيَةُ النَّفْسِ فَلَا َيتِمُّ إلَّا عَنْ طَرِيْقِ الْقُرْآنِ وَالْوَلِيِّ الْمُرْشِدِ وَبِبَيْعَةٍ صَحِيْحَةِ الشُّرُوطِ مَعَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .. ؛ هَكَذَا نَصُّ الْقُرْآنُ الْكَرِيْمُ فِيْ ثَنَايَاهُ .
قَالَ تَعَالَى : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ) البقرة 151
فَفِيْ الْآيَةِ وَاضِحٌ تَمَامَاً أنَّ تَعْلِيْمَ الْقُرْآنِ وَالتَّزْكِيَةَ مِنْ وَظَائِفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ؛ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأْنبِيَاءِ ؛ فَالْأوْلِيَاءُ الْعَامِلُونَ الْعُلَمَاءُ هُمْ وَرَثَتُهُ فِيْ التَّعْلِيْمِ وَالتَّزْكِيَةِ .
( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ) ، وَمَادَامَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ فَلَا عَجْزٌ وَلَا مَعَايِيْرٌ وَلَاحُدُودٌ ، فَالدُّنْيَا يُعْطِيْهَا لِمَنْ يُحِبُّ وَلِمَنْ لَايُحِبُّ إلَّا اْلعِلْم الدِّيْنِيّ الشَّرْعِيّ فَإنَّهُ لَايُعْطِيْهِ إلَّا لِمَنْ يُحِبُّ .
أمَّا قَولُهُ حَبِيْبِيْ عَزَّوَجَلَّ مِنْ قَائِلٍ : ( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) وَعَلَى ضَوْءِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيْمَةِ نَعِي أنَّ الرُّوحَ بِإطْلَاقِهَا مَحْكُومَةٌ بِنُورِ الرُّبُوبِيَّةِ ؛ وَنُورُ الربوبية هُوَ مَشْهَدُهَا وَوُصُولُهَا وَبِهِ بَقَاؤُهَا .
( من كتاب علم الفوح من بعض أدلة الروح للمفكر الإسلامي الشيخ الدكتور هانيبال يوسف حرب ) .